منذ فترة طويلة، تجتاح اللهجة اللبنانية الإذاعات الفلسطينية. صرعة التحدّث بهذه اللهجة التي توصف بـ«الناعمة»، ضربت ثلة من المذيعات الفلسطينيات اللواتي وجدن أنّ لهجتهن الأصلية تنافي أنوثتهن وشخصيتهن الإعلامية! هكذا، لذن بالفرار من اللهجة التي يعمد الاحتلال الإسرائيلي إلى طمسها، وطرقن باب لهجة أخرى وجدن فيها مساحة معقولة لـ«الدلع» و«الغنج».
اللهجة اللبنانية ميّزت تحديداً المذيعات اللواتي يتقمّصن على الهواء مباشرةً دور المصلحات الاجتماعيات والطبيبات النفسيات. هن يقتحمن عالم الحبّ والمشاكل النفسيّة والاجتماعية كرمى لعيون المستمعين الذين يجدون عندهن مجالاً لتفريغ مشاعرهم. يخال للمستمع أنّ هؤلاء المذيعات في جلسة «فضفضة»، حيث يقدمن النصائح للواقعين في الغرام أو الذين يعانون مشكلة ما.
مع ذلك، قد يغفر المستمع لهؤلاء المذيعات ذنب التصنّع، وخصوصاً أن برامجهن تجارية تندرج في إطار الترفيه، حيث تخفّ القيود مقارنةً بالبرامج الأخرى. لكنّ الطامّة الكبرى تكمن في انتقال هذه العدوى إلى الفضائيات الفلسطينية التي لا يقتصر جمهورها على الوسط المحلي كما الحال في الإذاعات، بل يمتدّ إلى العالم العربي. برزت أعراض هذه العدوى بنحو جليّ في برنامج «حديث البلد» على شاشة «مكس معاً» الفضائية. البرنامج الذي تقدمه المذيعة سمر الدبس، يحسبه المشاهد لبنانيّاً للوهلة الأولى.
لكن حين يلحظ «لوغو» التلفزيون، يستدل على هويته الفلسطينية. اسم البرنامج مستوحى أيضاً من برنامج «حديث البلد» اللبناني الذي تقدّمه منى أبو حمزة على mtv.
غير أن فحوى البرنامجين متباينان بشدة. النسخة الفلسطينية أشبه بمجلة متنوعة تستعرض ملفات إخبارية واجتماعية وشبابية، وتمدّ جسوراً للتواصل بين المواطن وصانع القرار. ويتضمّن «حديث البلد» الذي يبثّ عند الساعة الواحدة ظهراً يوميّاً (ما عدا الجمعة) رسالةً دورية من العلاقات العامة في الشرطة الفلسطينية حول المستجدات وحالات الأمن، وإرشادات توعوية من خلال الدفاع المدني. هذا البرنامج ذو الطابع الجاد، يتعارض بشدّة مع هويّة لهجة الدبس التي تكشف عقدة نقص تعانيها مذيعات فلسطينيات كثيرات يجدن في اللهجة اللبنانية طريقةً لاستقطاب المشاهدين، توافقاً مع صورة لبنان في عقولهن. الدبس التي يفضحها تلفّظها ببعض الكلمات البعيدة عن اللهجة اللبنانيّة، ربما لا تعرف لبنان إلا من خلال البرامج الغنائية ومسابقة ملكة جمال لبنان والصورة التي تروّجها القنوات اللبنانية. على ضفةٍ أخرى، تغفل الدبس وزميلاتها أن عزوفهن عن لهجتهن الفلسطينية لن يصبّ إلا في مصلحة الاحتلال الذي يعمد بكل الطرق إلى دفن هذه الهويّة. وبذلك، تكون هذه الثلّة من المذيعات قد قدّمن خدمة مجانية للاحتلال من حيث لا يدرين!