ها هو أحد الذين يمثلون مظهراً من مظاهر نكبتنا الفكرية المعاصرة يخرج ليعلن على الملأ: ‘خطفت بناتكم’، ويواصل: ‘سأبيعهن في السوق، بإذن الله سأبيعهن، وسأزوجهن بالقوة.. هناك أسواق لبيع البشر’، ويواصل حسب رواية ‘الغارديان’ البريطانية نقلاً عن شريط فيديو: ‘النساء سبايا، وأريد أن أطمئن إخواني المسلمين أن الله يقول إن بيع العبيد مباح في الإسلام… إنهن سبايا وسيتم بيعهن وتزويجهن بالقوة’. وأضاف ‘سأزوج البنات عند سن الثانية عشرة… سأزوجهن عند سن التاسعة’.
ما ذكر أخذ من شريط فيديو مدته سبع وخمسون دقيقة بثته جماعة ‘بوكو حرام’ النيجيرية لزعيمها أبو بكر شيكو، الذي خطفت جماعته قبل ثلاثة أسابيع مئتين وستا وسبعين تلميذة من مدرستهن في شيبوك في ولاية بورنو في 14 نيسان/ابريل، قبل أن تتمكن ثلاث وخمسون منهن من الفرار، حيث لا تزال مئتان وثلاث وعشرون فتاة في قبضة الخاطفين.
وشيكو هو خليفة محمد يوسف الزعيم الذي ترك تعليمه النظامي لأنه غربي، وأسس الجماعة التي يعني اسمها ‘التعاليم أو الثقافة الغربية حرام’، قبل أن يقتله الأمن النيجيري، كما قتل عدداً من أعضاء الجماعة في ظروف مخالفة لحقوق الإنسان، حسب شهادات دولية، وهذا ليس الموضوع. وقد خبأت الجماعة التلميذات في مكان غير معلوم حتى اللحظة. ويوم الاثنين الماضي أعلن زعيمها أن الفتيات لديه، وأن الجماعة سوف تبيعهن في السوق لأنهن ‘سبايا حرب’.
هكذا قرر شيخ هذه الجماعة الخارجة من عباءة التاريخ، بكل إشكالياته، قرر أن تلميذات صغيرات أصبحن سبايا، يجوز لجماعته – التي يراها ‘النسخة الحقيقية’ للإسلام – بيعهن في السوق، حسب شريعة هذه النسخة.
أعتقد أن معظم الإشكاليات المعقدة التي يعاني منها الفكر الإسلامي اليوم، يمكن أن تختصر في شيكو، الذي حاول أن يختصر تاريخ الإسلام في سبع وخمسين دقيقة، هي مدة شريط الفيديو الذي أرسله من إحدى الغابات الافريقية، ليضيفه إلى مجموعة كبيرة من الأشرطة ترسل من عدد من الكهوف النائية، أو الصحارى المترامية.
يخرج شيكو من مجاهل تاريخ عميق يحمل ملامح عصر غير العصر، تترآى فيه حروب وسبي ومعارك اجتزئت من سياقاتها التاريخية ليسقطها زعيم ‘بوكو حرام’ على القرن الواحد والعشرين. والسبي في الحرب لم يكن عند المسلمين فقط، بل كان لدى كل الأمم الماضية، مع تسجيل أن الإسلام جفف منابع العبودية بتحريمه استرقاق الأحرار، وتشجيعه على تحرير الأرقاء، ولكن هذا مرة أخرى – ليس الموضوع. الموضوع هو هذه القراءة الماضوية للنصوص وللإسلام برمته.. القراءة التي أنتجت النسخة التي يراها شيكو ‘الإسلام الحقيقي’. هناك قراءات للنصوص ماضوية تعتمد السياق التاريخي، وهناك قراءات أخرى تعتمد المتلقي وظروفه المعاصرة، أو لنقل هناك قراءات ترى أن ‘المعنى في بطن الشاعر’، في مقابل أخرى ترى أن ‘المعنى في بطن القارئ’، وهناك قراءات أخرى تدمج آفاق الماضي بالحاضر، وتنطلق من نظرية ‘دمج الآفاق’ لغدامير، التي تقوم على أساس فتح النص على أفق التاريخ والحاضر والجغرافيا عند قراءته.
مشكلة شيكو أنه لا يعرف إلا القراءة الماضوية للنص، من دون مراعاة للسياقات التاريخية، والآفاق المعاصرة لفهم النصوص وإسقاطها على الواقع. قراءة شيكو مجمدة عند درجة الصفر بالتعبير البنيوي. المسألة أعمق من مجرد مشكلة فردية عند شيكو، المعضلة تكمن في قراءة واسعة للإسلام تعتمد سحب التاريخ من ذيله إلى الحاضر، أو جر الحاضر من قرنه إلى الماضي، وهي مشكلة تعكس الجهل بالتاريخ والحاضر على السواء.
جاء شيكو إلى الحاضر وألقى عليه عباءة التاريخ، وظن أنه بذلك ‘يؤسلمه’، أو ظن أنه سيترآى في زي القرن الهجري الأول الذي تلمع صورته المثالية لدى شيكو، كما هي لدى ملايين المسلمين. لكن من قال إنه بمجرد إلقاء عباءة على الزمن يدخل الزمن في الإسلام؟ ومن قال إن الزمن تجمد عند القرن الأول الهجري؟ ومن قال إن الإسلام يمكن أن يصلح لهذا الزمن، من دون أن يكون ديناً متحركاً مرناً – في معظمه – ليستوعب حركة التاريخ، كما استوعبها من قبل؟ ومن قال إن المعاني العظيمة في الإسلام يمكن أن تحملها ألفاظ صيغت لتناسب زمناً آخر؟ ومن قال إننا لا يمكن أن نكون مسلمين صالحين، إلا إذا لبسنا عباءة القرن الأول الهجري؟ من قال إن الإسلام يمكن اختصاره في العباءة؟
مشكلة شيكو أنه لا يدرك أن الزمن متحرك، وأنه لا يعاد إنتاجه بالمواصفات ذاتها. الزمن يكبر ويتمدد، والعباءة التي يحاول شيكو إلقاءها على الزمن صغيرة على حجم عقل شيكو نفسه، وبمقاساته هو، وليست مفصلة بالمقاييس الإسلامية في مقاصدها الكبيرة أصلاً. عباءة شيكو لا تناسب القرن الواحد والعشرين، لأنها من تصميم شيكو، ومن الظلم القول إنها حسب المقاسات الإسلامية. العباءة صغيرة لا لأنها إسلامية، بل لانها ليست إسلامية، كما قال الأزهر الشريف في مطالبته بإطلاق سراح التلميذات.
مشكلة شيكو مع الزمن أن الزمن يبتكر دائماً موضة ثيابه، ويصمم ملابسه على الشكل الذي يروق له، لا الذي يروق لشيكو وأتباعه. نسي شيكو أن الزمن يمكن أن يمت إلى الإسلام بصلة، لو أعيد ‘الاجتهاد’ في تصميم العباءة التي يريد أن يلقيها على الزمن، نسي أن العباءة مجرد لباس وأن حركة الزمن أهم من قطعة قماش، حركة الزمن هي روحه التي لا يستطيع شيكو أن يفهمها، كما أن حركة الدين هي روحه التي بدونها لا يستطيع الإسلام أن يستمر.
وعودة إلى الشريط المذكور، فإن الصحافة الغربية أخذت الشريط، كما أخذته دوائر سياسية وإعلامية وأكاديمية على شاطئي الأطلسي طارت به فرحاً. الشريط ‘غنيمة إعلامية’ ثمينة، لا يقل عن ‘غنيمة البوكو حرام’ من السبايا الجدد، بالنسبة للإعلام الانتقائي الغربي، كما أنه لا يقل عن مئات الأشرطة التي تأتي من المجهول البعيد حاملة الجثث والرؤوس المقطوعة، وروائح الدم.
شريط بوكو حرام هو غنيمة أخرى لهذا الإعلام الذي تجاهل مطالبة الأزهر الشريف بإطلاق سراح التلميذات، وتجريمه لهذا الفعل الشنيع. فعلى الرغم من أن الازهر طالب حركة ‘بوكو حرام’ النيجيرية باطلاق سراح الفتيات، وعلى الرغم من أنه اعتبر أن اختطاف الفتيات ‘لا يمت لتعاليم الإسلام السمحة والنبيلة بأية صلة’، وعلى الرغم من إلحاحه على ‘الإفراج الفوري’ عن الفتيات، إلا أن الصورة التي علقت بأهداب الشاشات، ومانشيتات الصحافة، هي صورة أبوبكر شيكو، وهو يتحدث عن بيع غنيمته من ‘السبي في السوق، وتزويجهن بالقوة، لأن الله أمره بذلك’، فيما ضاع صوت الأزهر ضمن الأصوات الكثيرة الضائعة في هذا الفضاء الذي ملأه شيكو وأضرابه ضجيجاً، وحلت فيه الحناجر العالية محل العقول المجتهدة.
خبر تجريم الأزهر لعمل بوكو حرام ، وقوله إن هذا العمل لا يمت إلى الإسلام بصلة، لا يعني الصحافة، هو خبر بارد غير مثير، لكن أن تقول أنجلينا جولي إن ‘خطف الفتيات في نيجيريا عمل وحشي يفوق التصور’، فهذا هو الخبر. لأنه يبرز تمدن الغرب الذي يظهر في صورة جولي الأنيقة، في مقابل وحشية الشرق الذي يبدو شيخاً ملتحياً خارجاً من عباءة التاريخ يبيع تلميذات صغيرات في سوق النخاسة، بأمر الله. هذا هو الخبر المحبذ لدى الميديا الغربية التي أضافت إلى الخبر أبعاداً ثقافية وحضارية أخرى.
وتعلق ‘الغارديان’ على قول شيكو ‘سأبيعهن في السوق’، بالقول: ‘هذا فيما يبدو يشير إلى تقليد قديم يجيز تحويل النساء الأسيرات إلى سبايا أثناء الجهاد أو الحرب المقدسة’.
الخلاصة.. المسلمون اليوم بين سندان شيكو ومطرقة الإعلام الانتقائي في الغرب. ولن تتم مواجهة الأقلام الوضيعة في الصحافة الغربية، إلا بمواجهة متطرفينا الذين اختطفوا الإسلام على حين غرة، ونصبوا أنفسهم متحدثين رسميين باسمه، من دون أن تكون لديهم مؤهلات الناطقين باسم الله، أو باسم الإسلام، أو حتى باسم المسلمين.
القدس العربي