الارشيف / عالم المرأة / أخبار المرأة

عرق السوس (قصة قصيرة)

  • 1/2
  • 2/2

عرق السوس ... طيب ولذيذ .. عرق السوس ..
 هكذا دأبه كل يوم, فمنذ الصباح الباكر يخرج حاملا تلك الآنية الكبيرة على صدره, يسير حاملا معها أحلاما تبخرت بعد عيش في متاهات وهَم, نديم هكذا كان اسمه, فحين يمر في السوق مع الزحام الكبير, الذي تتلاطم به الوجوه دون حساب أوعَد يقف عند ركن أحد المحلات, يُصفق بأواني الشرب, كأنه يعزف صداعا إلى جانب صوت المارة وصراخ الباعة, لم يكن صوت تراشق ضرب الأواني سوى دقات متسارعة لضربات قلبه, الذي أمتشق ثقل آنية حملها على بطنه وصدره, أمسكها بحزام شد به عموده الفقري, الذي أخذ يصرخ من ألم الوقوف, يحب المارة الاستماع الى صوته, مرتشا بتلك العبارات التي يتناوب في صياغتها ترويجا لبيع عرق سوسه, كثيرا ما يقف الناس لا حبا في الشرب, بل حبهم لتلك الحركات التي يقوم بها حين يصب عرق السوس للزبائن تماما مثل البهلوان, ترغيبا لشراء, أعتاد أصحاب المحلات على رؤيته وسماع الانتقادات التي يصوغها رغبة في جلب انتباه, ان الحرية التي امتشقتها الأفواه أصبحت الملاذ الوحيد الذي يمكنها إظهار تذمرك بالحديث عن كل شيء, دون ان تحاسب ما دمت تُعتَبَر نفسك نكرة, لذا كانت الانتقادات في كل مكان، كما أصبح الشارع والسوق أو أي مكان هو ( الهايد بارك ), حينها فعل ما تشاء، تتعرى ثم تلبس أي قناع وطني، أو سياسي، أو ديني لتنتقد الآخرين, ما داموا ليس على هواك.
في أحد الأيام... حين خرج مسترسلا كعادته إلى السوق لمكانه الطبيعي, لإلا أنه وجد في مكانه رجلا يقف بعربته المزركشة الألوان، مليئة بأنوار الزينة، إضافة إلى أغاني الرتم السريع الجديدة, التي يتغنى ويتراقص بها جيل الراقص, مرفقة بصوت عال ينادي من خلال سماعة على بيع عرق السوس, إضافة الى أكواب زجاجية ملونة تعكس لون عرق السوس الى عرق متعدد الألوان, تَسَمّرَ في مكانه حين شاهد نديم هذا الرجل وعربته, تعطلت كل حركات جسمه التي خارت قواها, شعر بالهزيمة قبل أن يطالب بحقه, فلا مجال للمقارنة بين ما يفعله وبين ما يشاهد من بهرجة عارمة, جعلت وافدي السوق يتهافتون على هذه العربة لشرب عرق السوس, أقترب منه... بعد تربيته على كتف صاحب العربة قائلا: ماذا تفعل هنا؟ أن هذا المكان مكان وقوفي منذ فترة طويلة, كيف سمحت لنفسك ان تأخذ ما ليس هو بحقك؟ ألتفت صاحب العربة معلقا: ومن أنت؟ وماذا تريد؟! هل تظن أنك اشتريت المكان حتى تطالب به؟؟ لقد جئت قبلك واحتللت المكان، فهيا اذهب من هنا بأدبك قبل أو أوسعك ضربا مؤلما, أستغرب نديم من صلف لسانه ورده, فقال له: قلت لك إن هذا المكان مكاني، هيا أبتعد بعربتك من هنا وإلا أنت من يشاهد الضرب والخراب الحقيقي هيا ابتعد, كان المارة قد اخذوا بالتجمع والاستماع إلى ما يدور بين الاثنين، كأنهم يشاهدون عرضا مسرحيا, قام صاحب العربة بدفع نديم إلى الوراء، فتناثرت كل الصحون التي يحملها بين يديه و المعلقة بحزامه, متكئا إلى الحائط الذي ارتطم به، فصرخ ألما من شدة ارتطام فقد كانت آنية عرق السوس مليئة وزادت من شدة الدفع وجعا وألما, بعد أن وقف صاحب العربة أمامه مزمجرا صارخا ... هيا ارحل من هنا وإلا أذقتك ما لم تره في حياتك، ثم أمسك بعصا أخرجها من بطن عربته وهم بضرب نديم لوهلة, لكنه شعر أن هناك من يمسك بيده صارخا فيه, ماذا تفعل؟! إنك تتعدى على الرجل دون وجه حق، فهذا المكان .. مكانه، ما أنت إلا غريب، جئت اليوم تحمل سوء الأدب عنوان لترويج بضاعة, وما تفعله ليس عدلا، فضربك له لا يحل المشكلة, فقد طلب منك باحترام أن تترك المكان وتبحث عن غيره يليق بما تحمله من مغريات للبيع, لم يكمل الرجل حديثه إلا وشعر بضربة على رأسه أسالت الدم, فزع المارة من هول ما حدث, منهم من تطافر وذهب, ومنهم من وقف ليتذمر, الكثير ظل يشاهد الحدث, كان نديم قد نهض من مكانه ورمى بآنية عرق السوس من على صدره، هجم على صاحب العربة، فأمسك به... ناطحا إياه برأسه، أختل توازن صاحب العربة, ثم أخذ بالعصا وهوى ضربا بها على رجليه ويديه وهو يصيح .... ابن الكلب .. لقد جئت اليوم لتحتل مكاني لقد عانيت الكثير من أمثالك، بعد أن تسربوا كالبعوض يمتص خيرات رزقي وثروات وطني, لقد استهجنت من هم على شاكلتك حتى رفضت العيش في واقع أسود بعد أن كان يتشح بالظلام الذي ما انفكت أساريره حتى لبسنا الظلم ترياقا بعد أن تجرعناه سنين طوال, خذ هذه لكل السنين العجاف, وهذه إلى كل سنين التغيير دون نتيجة, عليك لعنة الحياة وما تحمله من نكبات, كانت يده تنهال ضربا دون أن يتدخل أحد, رأى نفسه قد تمادى بالضرب, توقف!! وقال للعامة... أرأيتم لقد جاء مثلما جاءونا بحركات وألوان مختلفة, استقطبتكم بسرعة، لم تقاموا الإغراءات الجديدة، تناسيتم أصولكم الحقيقية, أثناء ذلك كانت المارة قد تناقلت الأخبار فيما بينها, إلى من لم يشاهد الحدث, حتى أمست معركة بين قوى سياسية بحراب قديمة وحديثة, تشجع بعض أصحاب المحال وتدخلوا في لملمة نزاع ووساطة, في درء السوء بمفردات ود..
جاءت من بعيد مجموعة تتدافع بقوة، ناثرة المارة كأنهم ذباب متطاير, وجدوا صاحب العربة ممداً, ونديم ممسكا بالعصا, أندفع من كان يقودهم باتجاه نديم أمسك بعنقه ثم رمى به إليهم, تناولته المجموعة صفقا وركلا... أبتعد الجميع, تركوا الساحة كأنها حلبة مصارعة, وهم يتفرجون بصراخ وعويل... أتركوه ليس المخطئ, دعوه لعنة الله عليكم وعلى من جعلكم سلطة دون رادع, كانوا منشغلين بطبيق نديم مثل كيس قمامة, ودون الاهتمام لصراخ الناس, كان كبيرهم قد رام يحمل صاحب العربة للعناية به, أما نديم فما تركوه إلا بعد أن نفض العمر أنفاسا مختنقة, حملوه بعيدا, بعدها أدارت محركات السيارات منطلقة بسرعة, اشرأبت الأعناق وعيون على تلك السيارات التي رحلت بعيدا, أما العربة فقد بقت في مكانها، جاء رجل آخر أخذاً مكان صاحب العربة، ثم أدار المسجل ليغني المطرب الجديد القديم, ( السح اندح امبوه ).

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى