قضايا المرأة السعودية المطروحة مؤخرا، التي يتناولها الكثير لوكا وطحنا وتنظيرا، بعيدا عن مشاركة فاعلة ومؤثرة من صاحبة الشأن؛ أصبح الخوض فيها أمرا ممجوجا ويكاد يقارب السخف. فالأغلب يطرح حلولا ورؤى أفلاطونية بعيدة عن الواقع، وتصب في قالب من التنظير دون القبض على الأسباب الحقيقية التي تجعل من هذه القضايا حديث المجتمع وشاغلة للرأي العام، مهما كانت تافهة ومن ثم معالجتها.
وبتجاوز حدود المجتمع السعودي، نرى أن جدلية المرأة والمجتمع قديمة منذ القضمة الأولى لآدم من شجرة الخلد، التي نُسبت فيها الغواية لحواء وانسحبت على بناتها من بعدها حتى الآن.
ففي الحضارة الصينية القديمة كان يقال عن المرأة إنها "المومياء المؤلمة"، وفي الحضارات الهندية كالمانو والهندوس والساتي، كانت المرأة محتقرة ومهانة حتى أنها لدى الأخيرة تُحرق جوار رماد زوجها المتوفى وإلا حلت عليها لعنة المجتمع. ولم يكن الأمر يختلف لدى حضارات الغرب اليونانية والرومانية، التي كانت ترى المرأة متاعا قابلا للبيع والتبادل، وتقدم كقربان لطقوسهم الوثنية. وكذلك الحال لدى الفرس والعرب قبل الإسلام الذي عُرف عنهم وأدهم لبناتهم عند الولادة؛ خجلا من عار قد يلحقهم بسببها. ومن ثم جاء الإسلام لينظم حياة البشر ويعيد ترتيب أولوياتهم، ومنها عنايته بالمرأة ومساواته لها مع صنوها الرجل في التكليف بالعبادات والجزاء.
بالرغم من هذا التشريع والبيان الذي لا لبس فيه من دين يقوم على أُسس الإنسانية والعدالة، مازالت النظرة للمرأة في مجتمع يُعدّ المحضن والمصدر للدين الإسلامي نظرة قاصرة ومجحفة. لقد انجرف المجتمع في تيار يعيد الإقصاء الذي مورس على المرأة قديما، والدونية التي حرمها الإسلام تسلط قسوتها على النساء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. محاولات الإصلاح الحكومية وتمكين المرأة وإشراكها في العمل والعطاء في مختلف جوانب الحياة يقابلها تحذير من تيارات تنظر للمرأة أنها مومياء الصين أو أنها لعنة غواية حواء على جنسهم الذكوري، والذي عليها أن تتجنب إثارة غرائزه التي لا يستطيع السيطرة عليها إلا بتواريها واختبائها خلف أسوار حرمَلك اخترعه لها قصور قدرته على التعامل مع إنسانيتها المفترضة.
بنظرة سريعة على المحاكم وقضايا الطلاق والخلع والإرث في محاكمنا، نجد المئات من القضايا التي مورس فيها الظلم والإجحاف على المرأة كأم وزوجة وأخت وابنة، ولم يشفع لهم الدين الإسلامي الذي يتمترسون خلفه من إنصافها، سواء كانوا الخصم أم الحكم. ونعلم أنه توجد بعض القبائل بيننا لا تقر بحق للمرأة في الإرث، ويعدون ذلك من "العيب"، كعيب ذكر اسم امرأة أمام الآخرين، بل قد يردفها البعض في حال التعريض بالحديث عن امرأة بعبارات تدل على التنزيه من لوثة ما تصيب المستمع "كأكرمك الله"!. وآخرون يرون أنه من النقص حضور حفل زواج شقيقته أو قريبته، أو الذهاب لأداء واجب العزاء إن كانت المتوفاة امرأة. تراكم الانتقاص والتقليل من شأن المرأة على هذا المدى الزمني والاجتماعي الشاسع، وتمكن بعض التيارات المتشددة من التفكير الجمعي لسنوات طوال زادت في ضرب أسوار العزلة والإقصاء للمرأة على حساب حقوقها في التعليم والعمل والشعور بالاستقلالية والأمان. وحينما تحتم علينا مواكبة التزايد المطرد في رتم الحياة، وتوجب أن تعود المرأة للمشاركة في تفاصيل بناء ذاتها وبناء المجتمع حولها، خرجت الأصوات التي ترى من تمكين المرأة فيما هو حق لها كفله الشرع، نوعا من التمرد وبابا نحو الفتنة، ذلك المصطلح الفضفاض.
من عواقب هذه التراكمات من التعامل الإقصائي للمرأة أن خرجت لنا نساء لا تجد حرجا في قمع نفسها وبنات جنسها بتسليم تام وطمس شخصيتها، في ظل رجل تتبعه وتراه المخلص والمنتهى لحياتها ومن تقوم على ما يراه أركانها. فالبعض منهن مترددات مؤمنات بأن الحياة المستلبة هي الحقيقة التي يجب التسليم لها، وأنها مجرد "عورة" و"فتنة" قد تؤدي في أي لحظة إلى انفلات غرائز "ذكر" ما نحوها، وتُصبح الملامة على بهيمية سلوك يمارسه، لم يستطع أن يشذبه بتعاليم الدين والأخلاق. وأصبحت الكثيرات منهن مجندات لتعزيز هذا الرأي بعيدا عن المنطق. بينما بعض الرجال في المقابل يمارس السلطة المطلقة والتضييق على المرأة في محيطه كفعل مسلّم به، تربى عليه في منزله، وتلقاه في مدرسته، وسمعه على منابر المساجد، ولا يجد حرجا في ذلك. وكأنه غاب عن هؤلاء أن منح الثقة للمرأة يزيد من إحساسها بالمسؤولية تجاه ذاتها ومجتمعها، وكلما ازداد شعورها بالمسؤولية، أعطت بلا تردد ولا خجل من أنها أنثى يقوم على أكتافها بناء مجتمع واع بحقوقه وواجباته.
الأمر يتفاقم حد أننا نجد مؤسسة ثقافية تعلق عليها الآمال في الوعي والخروج من جلباب التبعية، نجدها تُدخل هذا الهاجس ـ هاجس خطر المرأة ـ في حساباتها وتؤثر على قرار المسؤول عن ملتقى ثقافي، ينظمه ويتلقاه مجموعة ممن يناط بهم الارتقاء بالتفكير وحمل راية التغيير في المجتمع. وسواء كان السبب الحقيقي وراء قرار إلغاء الفعالية الأخيرة لهذا الملتقى عدم وجود "حواجز" تفصل بين الجنسين من المشاركين أو المادة المقرر نقاشها، فإن من المخجل أن يبقى المجتمع في خوف من جسد المرأة ويسعى لعدم مخالطته بشكل طبيعي، بينما فكرها ورؤاها تجوب الآفاق، كالخجل من الخوف من أفكار كتاب سجلها التاريخ وآمنت بها الأنفس الحرة.
الخلاص من هذا الجدل العقيم بيد المرأة نفسها أولا، حينما تؤمن أنها ليست عورة، ومتاعا محدود الاحتياج، بل قيمة وندّ، ثم بيد شريكها الرجل حينما يصدق مع نفسه ويتخلص من خوفه منها، الخوف الذي زُرع داخله أن المرأة سبب للويل والعار والخجل ما لم تُقمع، وإن كان قمعه لها يأخذ الآن للأسف صورة طبيعية في نظره، ويُبررها أنه خوف عليها لا خوف منها!.