قبل الإجابة على هذا السؤال ، أشير الى أن هذا الموضوع ذو محورَيْن اثنين :أولاهما التعرف على الخرف والخرافة في لغة الجذور :
خرف : الخرف ( خ ر ف ) ، بالتحريك : فساد العقل من الكبر . وقد خرف الرجل بكسر الراء ، يخرف خرفا فهو خرف: فسد عقله من الكبر، والأنثى خَـرِفة ، وأخْـرفه الهرم أي أفسد عقله وقواه البدنية والفكرية ; قال أبو النجم العجلي :
أقبلت من عند زياد كالخرف=== تخط رجلاي بخط مختلف
.... وتكتبان في الطريق لام ألف
أو أنه رُدَّ إلى أرذل العُـمُـر .
بينما يرى آخرون أنَّ الخرف خاص بفساد القوى العقلية ، ولا علاقة له بالقوى الجسدية ، وهو الأرجح لمن يتتبع دلالات الجذور العربية وفقه اللغــة ...
والخرافة عند العرب اشتقاق من اسم رجل اسمه خرافة ، قيل أن الجنَّ قد استهوته وعاد يجدِّث بأحاديث منكرة فقيل عنه ( خّـرِف ) وعن حديثه خرافة ، وبالتالي يرى بعض فقهاء اللغة أن الخّـرَفَ وهو فساد العقل اشتقاق من هذه المسألة والله أعلم ...
السؤال الذي يطرح نفسه : وقبل خرافة هذا ، ألم يستخدم العرب الجذر الثلاثي ( خ ر ف ) وما دلالاته في لغتهم التي هي أدقُّ من موازين الذهب والفضّـــة ؟ ؟
. تقول العرب :أخرفوا أي أقاموا بالمكان خريفهم ( الفصل المعروف من فصول السنة). والمخرف : موضع إقامتهم ذلك الزمن كأنه على طرح الزائد ; قال قيس بن ذريح :
فغيقة فالأخياف أخياف ظبية=== بها من لبينى مخرف ومرابع
وفي حديث عمر - رضي الله عنه - : إذا رأيت قوما خرفوا في حائطهم أي أقاموا فيه وقت اختراف الثمار ، وهو الخريف ، كقولك صافوا وشتوا إذا أقاموا في الصيف والشتاء ; وأما أخرف وأصاف وأشتى فمعناه أنه دخل في هذه الأوقات . وفي حديث الجارود : قلت يا رسول الله ذود نأتي عليهن في خرف فنستمتع من ظهورهن وقد علمت ما يكفينا من الظهر ، قال : ضالة المؤمن حرق النار! قيل : معنى قوله في خرف أي في وقت خروجهن إلى الخريف . وعامله مخارفةً وخرافا من الخريف (الأخيرة \ خِرافـاً مروية عن اللحياني) ، كالمشاهرة من الشهر . واستأجره مخارفة وخرافا ; (عنه أيضا .) وفي الحديث الشريف : فقراء أمتي يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بأربعين خريفا ) ; قال ابن الأثير :الجزري: هو الزمان المعروف من فصول السنة ما بين الصيف والشتاء ، ويريد به أربعين سنة لأن الخريف لا يكون في السنة إلا مرة واحدة ، فإذا انقضى أربعون خريفا فقد مضت أربعون سنة ; ومنه الحديث الآخـــر:" إنَّ أهل النار يدعـون مالكا أربعين خريفا" . وفي حديث سَـــلَـمَــــة بن الأكوع ورجزه :
لم يغذها مُـدٌّ ولا نصيفُ === ولا تُـميرات ولا رغـيفُ
لكنْ غـذاها لبنُ الخريف
( قلنا : لبن الخريف معروف عند أهل البادية بأنه ذو دسومة عالية ) .
و عن علي – كرَّم الله وجهه قال : سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول :( من عاد مريضا إيمانا بالله ورسوله وتصديقا لكتابه كان ما كان قاعدا في خراف الجنة ) ، وفي رواية أخرى : (عائد المريض في خرافة الجنة ) أي في اجتناء ثمرها من خرفت النخلة أخرفها ،وفي رواية أخرى : ( عائد المريض له خريف في الجنة، أي مخروف من ثمرها ، فعيل بمعنى مفعول . والمخرفة : البستان . والمخرف والمخرفة : الطريق الواضحة . وفي حديث عمر - رضي الله عنه - : تركتكم على مخرفة النعم أي على مثل طريقها التي تمهدها بأخفافها .وقال ثعلب :المخارف الطرق ولم يعين أية الطرق هي . والخرافة : الحديث المستملح من الكذب . وقالوا : حديث خرافة، ذكر ابن الكلبي في قولهم حديث خرافة أن خرافة من بني عذرة أو من جهينة ، اختطفته الجن ثم رجع إلى قومه فكان يحدث بأحاديث مما رأى يعجب منها الناس فكذبوه فجرى على ألسن الناس كما ذُكر آنفاً. وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ( وخرافة حق ) . وفي حديث عائشة - رضي الله عنها : قال لها حدثيني ، قالت : ما أحدثك حديث خرافة ، والراء فيه مخففة ، ولا تدخله الألف واللام لأنه معرفة (أي لا نقول الخرافة للتعريف فهو اسم علم وبالتالي هو معرفة )إلا أن يريد به الخرافات الموضوعة من حديث الليل ، أجروه على كل ما يكذبونه من الأحاديث ، وعلى كل ما يستملح ويتعجب منه . والخروف : ولد الحمل ، وقيل : هو دون الجذع من الضأن خاصة ، والجمع أخرفة وخرفان ، والأنثى خروفة ، واشتقاقه أنه يخرف من هاهنا وهاهنا أي يرتع . قلنا : وكذلك الرجل إذا خرف لا يستقيم حديثه ولا يتتزن معانيه وتستقيم ، تراه يحدث تارة في الشرق وتارة في الغرب !!! قال تعالى في كتابه العزيــز : ((ومنكم من يُرَدُّ إلى أرذل العمر لكي لا يعلم بعد علم شيئا إن الله عليم قدير)) بيَّن - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أن من الناس من يموت قبل بلوغ أرذل العمر ، ومنهم من يعمِّر حتى يرد إلى أرذل العمر . وأرذل العمر آخره الذي تفسد فيه الحواس ، ويختل فيه النطق والفكر ، وخُصَّ بالرذيلة ; لأنه حال لا يرجى صلاحها بعد ذلك ، فالطفولة لا يعلم صاحبها شيئا مما يعلمه العقلاء ، لكنها لا توصف بالأرذل كون الطفل يُـرجى صلاحه بعد مرحلة الطفولة ، والآية دليل على أن المجنون خِلْقةً لا يقال له ( خَرِف \ ولا خرفان ) لأنه ليس ذا علمٍ سابق !
وقال الشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان :عن أنس بن مالك( رضي الله عنه) : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو : " أعوذ بالله من البخل والكسل ، وأرذل العمر ، وعذاب القبر ، وفتنة الدجال ، وفتنة المحيا والممات " ،وعن علي - رضي الله تعالى عنه - : أن أرذل العمر خمسٌ وسبعون سنة . وعن قتادة : تسعون سنة . والظاهر أنه لا تحديد له بالسنين ، وإنما هو باعتبار تفاوت حال الأشخاص ; فقد يكون ابن خمس وسبعين أضعف بدنا وعقلا ، وأشد خرفا من آخر ابن تسعين سنة ، وظاهر قول زهير في معلقته :
سئمت تكاليف الحياة ومن يعشْ=== ثمانين حولا لا أبا لك يسأم
أن ابن الثمانين قد بلغ أرذل العمر ، ويدل له قول الآخر :
إنَّ الثمانين وبُـلغْـتُـهـــا === قد أحوجت سمعي إلى ترجمان
وهذا الاختلاف في تحديد أرذل العُـمُر يمتد إلى تحديد سنِّ الشيخوخة ، قال أحدهم :
زَعَمَتْنِي شَيْخاً ولَسْتُ بِشَيْخٍ *** إنَّمَا الشَّيْخُ مَنْ يَدِبُّ دَبِيبَا
وقلنا في التعليق على البيت : والشيخ من استبانت فيه السن أو من خمسين إلى أواخر عمره" قاله في القاموس ،ودب يدب دبا ودبيبا مشى على هينته .
وقال بعض العلماء : إن العلماء العاملين لا ينالهم هذا الخرف وضياع العلم والعقل من شدة الكبر ، ويستروح لهذا المعنى من بعض التفسيرات في قوله تعالى: ((ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات)) سورة التين\5 ، لذلك كان السلف يعتبرون طلب العلم والأدب باباً من أبواب مقاومة الخرف ، وهو ضمان لألا يُـرد صاحبه إلى أرذل العُـمُـر، قال شيخ الإسلام أحمدابن تيمية رحمه الله في كتابه (اقتضاء الصراط المستقيم) : واعلم أن اعتياد اللغة يؤثر في العقل والخلق والدين تأثيرا قويا بيِّنا ويؤثر أيضا في مشابهة صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين ومشابهتهم تزيد العقل والدين والخلق.
وقال عبد الله بن المبارك رحمه الله : نحن إلى قليل من الأدب أحوج منا إلى كثير من العلم ( رَ : مدارج السالكين لابن القيم) .
وقال الإمام مالك بن أنس رحمه الله : كانت أمي تعممني وتقول لي : اذهب إلى ربيعة فتعلَّـمْ من أدبه قبل علمه :) رَ: ترتيب المدارك وتقريب المسالك) . وهذا هو موضـوع المحور الثاني من حديثنا المقصود ( هل يخرف العلماء ) ؟ وموعدكم معه الحلقة التالية باذن الله تعالى .