أجمل ما في الكتابة سياقها، أي مسار الحكي الذهني فيها. وقليلون مَن تجذبك سطورهم المكتوبة إلى سطورهم غير المكتوبة، والتي نسميها كواليس الكتابة وما بين السطور، أو لحظة ولادتها في الذهن. وسبب الكتابة عندي امرأة، وسبب هذه السطور أيضاً امرأة.
أن نُدخل "فيسبوك" في العلاقات والحسابات الشخصية، أمر عادي، لأن الضرورة التواصلية أرغمت الوسيلة على أن تكون سبباً لموقعة "فيسبوك" وتأثيره على القضايا الحديثة، متمحوراً وسطها، أو موازياً لمجريات الأحداث.
هكذا كان الأساس والمدخل للنقاش مع أحد الأصدقاء عن إمكانية استمرار "فيسبوك" بعد الزواج. وهل يستمر كل من الطرفين (مثل هذا النقاش داخل المجتمعات العربية يثار أكثر) بالاحتفاظ بحسابه وحسابها الشخصي على "فيسبوك"؟ هذا نقاش يمكن أن يطرح للدراسة، أو ملفاً للنقاش في الرأي العام، وأن يثار غالباً بين الشباب ومستخدمي الإنترنت بكثرة.
جرّنا النقاش إلى القناعات الشخصية، واحتفظ كل طرف برأيه، إما موافقاً لفكرة الاستمرار أو عدم الحاجة إلى استعمال "فيسبوك" بعد الزواج، وهو نقاش قد يبدو، للوهلة الأولى، بديهياً، بل ويدخل في الأمور الشخصية للأزواج، كطبيعة العلاقة مع الأقارب. لكن، في المجتمعات المحافظة وشبه المحافظة (تدّعي الانفتاح وتمارس المحافظة بشكلها التقليدي، وهي ازدواجية!)، نحتاج إلى وضع النقاط على الحروف والتوقف عند التفاصيل، بشكلها المؤثر والمؤثر فيه، فلم تعد الشعارات والحتميات، وحتى مناخ التفكير والمفكر فيه، "تجاوزاً خلدونياً"، مجردين عن المناخ اللاحسي.
لكن، بين السؤال والخروج منه والبحث عن أجوبة، يبقى الجميل أن تعيش بينهما لحظياً، وقد لا يهمني أن أخلص إلى النهايات، أو الأجوبة. لذلك، سأنظر في علاقتي ذهنياً مع المرأة، وأين تتمحور في حياتي(نا)، لنعرف، على الأقل، سياقات الكلام ودور المرأة في تحديد المسار التاريخي لتجربتي(نا)، مع ذواتنا الفردية والجماعية.
إذا قرأت لمَن كتبوا عن المرأة وحللوا، ودافعوا عنها بطريقة غير مألوفة، مثل عبد الله الغذامي ونوال السعداوي، أو الطاهر حداد وبيير بورديو، وغيرهم، لا يكفيك إلا أن تنظر حولك عن علاقتك العملية واليومية مع المرأة. في حالاتك وظروفك، وحتى في طقوسك الذكورية، كيف تُعامل المرأة؟
إذا رجعت (شخصياً) وتأملنا في علاقتنا مع المرأة، بعيداً عن الجانب العاطفي، فما الذي حرّكته وغيّرته فينا؟ ما مسارها في حياتي؟ وهل أثّرت فينا (فيّ) بشكل مباشر، أو غير مباشر؟ ماذا عن الأشياء الملموسة التي قدمتها إليّ (يقابل بالضرورة طرح السؤال مباشرة عمّا قدمته لها)؟ في الجانب المهني، أو الدراسي، أو الأسري؟ كيف كان دورها الذي ربما لم أنتبه إليه؟
وبعيداً عن كتابات المرأة، أو الكتابات عنها، وما كتبه الرجل عنها في الأدب والفلسفة والشعر، والتاريخ والصورة. رجعت، ذهنياً، إلى أمور وأحداث ومواقف في التقدم والتراجع غيّرت أسلوب حياتي وتفكيري، فوجدت أن أهم مسبب فيها كان المرأة، ومعظمها اتخذت طريقاً إيجابياً. فلو تحدثت عن السبب الأول لي في الكتابة، سأقول المرأة، وهو عرفان في حق مَن كانت سبباً في أن أتجرأ على القلم، وأكتب أول سطر خارج واجب الدراسة، وكانت حاضرة ذاتاً، وليست موضوعاً، في محاولات كتابة الشعر والقصة.
وفي الانتماء، كانت المرأة سببه الأول؛ فقد كانت هي مَن أدخلتني وعرّفتني إلى أحد الحركات الإسلامية والتنظيمات، وإلى حضور التجمعات والأنشطة الجماعية مع التوجهات الأخرى، وهي مَن جعلتني، بعد ذلك، أتخلى عن دروس التاريخ، وكل ما كتب عنها أو شُرّع لها. وهي مَن جعلتني أقرأ كتاباً لأدّعي أمامها أني أعرف كاتبه، وهي مَن جعلتني أسافر إلى مدن كثيرة، لأجلب لها شيئاً يذكّرني بمدن مررت بها، وهي مَن جعلتني أشاهد فيلماً شبّهت فيه نفسها بأحد ممثلاته، وهي وحدها مَن قيّمت رسمي لها، وهي مَن جعلتني أسبر غور الحياة الأسرية والمجتمعية، وكيف تعيش المرأة الصغيرة والكبيرة داخلها، كما أنها التي جردتني من بعض الأوهام المثلى، عنها وعني.
هي ما تصنعه بك، بما تمثله لك في علاقتك واتصالك بنظيرك الذكوري، وحتى بمثيلاتها الأنثوية. فهي مَن تجعلك تعرف طبيعتك وأنت بينهن، وأنت لست الشمس، حتى تدعي أنها (أو هنّ) كواكب من حولك. ولست البداية، أو النهاية، لتموضعها قبلك أو بعدك.
ولأنها هي، فهي مَن تجعلني أتوقف عند هذه السطور، لأن حكايتي معها غير مكتملة، والكلمات غير مستوفية قدرها، ولا ترضخ للدفاع عنها، ولأنها تريد أن تكمل حديثها، وتخط بيدها حكاية الرجل حولها أخذت هذا القلم.