أجد نفسي واقفة أمام أطباق الصحون أنظفها، و ألملم بقايا الطعام، فتسبح يداي بالماء و تسبح مخيّلتي في بحرٍ من الذكريات.. لا زلت أذكر كلماتي المتمرّدة على حياتي الصغيرة.. " ماما كل شيء إلا تنظيف المنزل، كل شيء إلا ذلك.. إنه ليس من اختصاصي... " أذكر حينها كم كنت أجعل لحياتي قوانين ألفّتها لنفسي، كنت أعيش كما أريد أن أعيش.. و كم أشبعت عائلتي بآرائي الفلسفية التي أحببت أن أفرضها على الجميع، و أن أجعل من تقاليد مجتمعي محط اعتراض و لربما سخرية أحياناً، و لا أزال أذكر كلما أتانا الضيوف تقول أمي : " إليّ بفناجين القهوة " فأقول ضاحكةً : قهوة ؟؟؟ لست أدري لم تقنعون أنفسكم بأنها مشروب لذيذ ... أنا متأكدة أنكم لا تحبون طعمها، و لكنها من ضرورات لعبة الضيوف.
أذكر يوما جدتي رحمها الله، و قد عاصرت تلك التكنولوجيا الحديثة، أخبرتها و أنا مفعمة بالحياة : " تيتا ألا تتمنّين أن تعودي شابة ؟ " و كم أدهشتني حينها عندما أجابني : " لا يا ابنتي ... الحمد لله انتهى دورنا، الدور صار عليكم ... ". أتذكّر كلماتها و ترّن في أذني، الآن شعرت ما هو دورنا ... دور العطاء، دور البذل و التضحية، فها قد أصبحت أردد نفس كلمات أمي و توجيهاتها حرفياً و لربما بنفس اللهجة، و كذلك أسمع كلمات مشابهة تماماً لكلماتي من فم طفلي ... أبتسم فيها رغماً عني، لم تعد أيضاً أعمال المنزل عبئاً علي، بل إنها من أسهل الأشغال و أقلّها تعباً، و لم أعد كما كنت أيضاً، فقد تغيّرت كثيراً، لا أدري إن كان للأفضل أو للأسوأ، و لكنني تغيّرت.
الحياة علّمتنا، ربّتنا، و منحتنا قوة و حتى قلباً أكثر صلابة، لم نعد نفعل كل شي نحبه، بل أصبح هناك ما يسمّى تنظيم أولويات. أصبحنا أكثر هدوءاً و أقل إندفاعاً، و أكثر مرونة... أنهيت غسل الأطباق، و أمسكت فنجاني القهوة أبتسم .. كلمات جدّتي لا تزال في أذني " انتهى دورنا و الدور عليكم ". كم تغيّرنا أيتها القهوة ... ؟؟؟