في بداية حياتي العلمية تعلمت أن العلم مجرد أي مستقل عن السياسة والدين، وعلى الباحث ألا يجعل انتماءه السياسي أو معتقده الديني يتحكم في نظرته للأمور وإلا فقد خاصية الحياد العلمي وأصبح منحازا. وتعلمنا أيضا أن هناك انحياز موضوعي حين يستند الباحث في أفكاره إلى حقائق مبرهن عليها ماديا أو عقليا.
أما مناسبة هذا الحديث فهو ما أصبحت تتعرض له المرأة المصرية في الأيام الأخيرة من إهانات تمثلت في التحرش والإقلال من قيمتها وخصوصا بعد أن أثبتت وجودها في مسار الأحداث منذ ثورة يناير 2011. والملاحظ أن الإهانة التي تتعرض لها المرأة سيطرت على الحياة في مصر بشكل مكثف وملحوظ مع صعود الإخوان المسلمين للحكم حيث أشاعوا في المناخ الثقافي مقولات كانت قد اختفت من حياتنا منذ زمن طويل مثل: لا ولاية لإمرأة، المرأة مهمتها حفظ النوع (الحمل والولادة)، ووظيفتها تكون في البيت لرعاية الزوج، ولا تخرج للعمل .. إلخ، وأصبحوا يفسرون نصوص الدين بما يخدم أهوائهم، وذلك باستخدام منهج “القياس الأرسطي” الذي أفسد التفكير العقلي، لأنهم تجاهلوا ما قاله أرسطو عن “السببية والعقلية” في فهم الأمور.
والحقيقة أن النظرة الدونية للمرأة بدأت من قديم الزمان مع الحياة المشاعية البدائية الأولى حيث لم تكن فكرة الزواج والأسرة المكونة من رجل وإمرأة وأولاد قد شاعت وسادت على نحو ما استقرت عليه. وما يعنينا في هذا الموضوع أن المرأة المصرية خرجت للعمل تشارك الرجل يد بيد في الريف ثم في المدينة، وبدأت تندمج في الحياة العامة وخاصة مع انشاء مدرستين لتعليم البنات في القاهرة وفي الإسكندرية بتأثير زوجة الخديو إسماعيل.
ورغم ذلك التطور إلا أن النظرة الدونية للمرأة ظلت سائدة حيث أن بعض الرجال يرفضون فكرة تعليم المرأة وخروجها للعمل، وأنه إذا كان ولابد من أن تعمل فلها أن تكون معلمة في مدرسة بنات أو ممرضة في مستشفى في عنابر النساء. وقد عرف هذا النوع من الرجال بالمحافظين. وأذكر في هذا الخصوص أن قاسم امين المعروف في تاريخ الثقافة المصرية بأنه محرر المرأة، بدأ محافظا وكان ضد عمل المرأة وكان ينشر أفكاره في صحيفة “المؤيد” لصاحبها الشيخ علي يوسف، فاستاءت منه الأميرة نازلي فاضل (عمها الخديو إسماعيل) وكان لها صالون شهير بإسمها يرتاده رجال لهم وزنهم في ذلك الزمان مثل سعد زغلول والشيخ محمد عبده واحمد لطفي السيد، فطلبت من الشيخ محمد عبده أن يدعو قاسم امين للصالون لمناقشته في أفكاره، فحضر الرجل وخرج من الصالون وقد تغيرت أفكاره تماما وبدأ يكتب عن تحرير المرأة، والمرأة الجديدة (1899) ولما جمع مقالاته في كتاب أهدى نسخة للخديو عباس حلمي الثاني، إلا أنه رفض ومنع قاسم من دخول قصر عابدين. فلما اندلعت الثورة ضد الإنجليز في 1919 خرجت المرأة دون دعوة تشارك في أحداث الثورة وبقيادة زوجات زعماء الحركة الوطنية وتعرضن لرصاص الإنجليز على نحو ما معروف.
على أن هذا الإنحياز غير الموضوعي ضد المرأة في مصر يرتبط بانحياز غير موضوعي آخر ضد غير المسلمين في مصر، وهذا ما صنعته جماعة الإخوان المسلمين منذ سيطروا على الشارع المصري مما نشهد آثاره في الأحداث الأخيرة.
والخلاصة أن استعادة مناخ المواطنة ودرء الفتنة لن يكون إلا بالتربية المستمرة لتعديل النظرة إلى المرأة بعيدا عن زاوية النوع التي تشغل بال المرضى النفسيين، وذلك ابتداء من المدرسة والبيت وانتهاء بالدولة، وذلك من خلال الأعمال الدرامية التي تعرض على شاشة التليفزيون بحيث لا تكون المرأة مجرد “انثى” في تفاصيل المشاهد المعروضة. والشق الثاني في التربية قوامه القانون، وذلك بتوقيع العقوبة الفورية على من يهين المرأة حتى يكون عبرة لمن لا يعتبر. وفي هذا الخصوص ليس من الضروري تقديم المتهم إلى محاكمة فقد يتولى محام الدفاع عنه من باب الشهرة مستندا إلى إجراءات شكلية تنتهي ببراءة المتهم وتدفع الضحية الثمن، إذ تكفي إشارة الضحية للجاني وشهادة الشهود.
وبعـــد .. هل يعقل أن نظل أسرى المرحلة المشاعية في البشرية في كثير من سلوكياتنا رغم تجاوز البشرية هذه المرحلة ..؟