الحمد لله والصلاة والسلام على نبي الله الخاتم وآله وصحبه ومن اتبع هداه وبعد :
فان أكرم نعمة حبا الله بها الانسان انما هي نعمة العقل الذي هو مناط التكليف ، وهو من الضرورات التي فرضت شرائع الله ان نحافظ عليها ، فلذلك حرم الاسلام الخمرة والمخدرات والمفترات والمهلوسات وكل ما أضر بالعقل وافسده من جمود وخرافة وو ….، وجعل التفكر والتدبر والنظر في ملكوت الله وآياته فرضا وواجبا شرعيا .
وان أكبر نكبة ينكب بها المرء أن يرد الى أرذل العمر فيصل دائرة الخرف وفساد ملكة العقل ، فلا يعي ولا يتدبر ويفقد ذاكرته وقواه الفكرية ، ولا يعلم من بعد علم شيئا !!!
والسؤال هل الخرف ومرافقات الشيخوخة ومرحلة أرذل العمر هي حتم لا زم يصاب به جميع الناس ؟ أم أنّ هناك شريحة يكرمها الله تعالى ببقاء مداركها العقلية وقواها الفكرية في أوج نشاطها حتى الرمق الاخير ؟؟؟
لنر النصوص والقواعد الشرعية التالية ، التي نرددها في ديننا الحنيف :
* من حفظ الله للعبد في دنياه : أن يحفظه في صحة بدنه وقوته وعقله وماله .
* قال بعض السلف : العالم لا يخرف . وقال بعضهم : من جمع القرآن متَّع بعقله .
وتأوّل بعضهم على ذلك قوله تعالى : ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ(5)إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) [ سورة التين] .
وكان أبو الطيب الطبري قد جاوز المائة سنة وهو ممتَّع بعقله وقوته ، فوثب يوماً من سفينة كان فيها إلى الأرض وثبة شديدة ، فعوتب على ذلك فقال : هذه جوارح حفظناها عن المعاصي في الصغر ، فحفظها الله علينا في الكبر . وكثيرون من علمائنا من عـمّروا فوق المئة وكانت طاقاتهم العقلية تتوقد وتزداد يوما بعد يوم .
* وعكس هذا : أن الجنيد رأى شيخاً يسأل الناس فقال : إن هذا ضيّع الله في صغره ، فضيّعه الله في كبره !! وسؤاله اذلال لنفسه – كما أظن – تأوله الجنيد بلوثة في عقله !
* قال ابن رجب رحمه الله :”خاتمة السوء تكون بسبب دسيسة باطنة للعبد لايطلــع عليها الناس”.وقال بعضهم : كم من معصية في الخفاء منعني منها قوله تعالى : ” ولمن خاف مقام ربه جنتان ” . وكم ردد السلف : ” إن الحسرة كل الحسرة ، والمصيبة كل المصيبة : أن نجد راحتنا حين نعصي الله تعالى “.فأرذل العمر عـدّها السلف من الخواتم السيئة لرحلة العمر وكانوا يستعيذون بالله ان يردوا اليها , وشخصوا سببها المباشر بانه المعاصي ، وبالمقابل فالطاعة والتقوى والخشية من سبل الخاتمة الحسنة .
* جاء في أبجد العلوم (1/241) ، وكشف الظنون لحاجي خليفة (1/46 (
“ومن الشروط: العزم والثبات على التعلم إلى آخر العمر ، استدلالا بما قيل : (الطلب من المهد إلى اللحد).وقال – سبحانه وتعالى – لحبيبه – -: (وقل رب زدني علما)، وقال: (وفوق كل ذي علم عليم) وزيادة العلم تقتضي صلاحية المرء لطلب العلم وتحصيله حتى آخر نفس في حياة المتعلم .
*وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال:قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) :( لن يشبع المؤمن من خير يسمعه حتى يكون منتهاه الجنة) رواه الترمذي. والمراد بالخير: العلم . وفيه أن زمان الطلب من المهد إلى اللحد، وأن عاقبة طلب العلم الجنة. وهذه بشارة وأي بشارة لمن يعلم أو يتعلم. جعلنا الله من أهليه وحشرنا في زمرة ذويه.” * قول السلف ” اطلبوا العلم ولو في الصين ” و ” اطلبوا العلم من المهد الى اللحد ” وهما ليسا حديثين ، بل يتوهم من يرفعهما الى النبي الاعظم فهما من اقوال السلف حثا على التحصيل ومعناهما صحيح تماما ، قال الشيخ عبد الفتاح أبو غدة : هذا الكلام : ” طلب العلم من المهد إلى اللحد” ويحكى أيضا بصيغة ” اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد”: ليس بحديث نبوي، وإنما هو من كلام النّاس ، فلا يجـوز إضافته إلى رسـول الله صلى الله عليه وسلم كمـا يتناقلـه بعض العوام وذوو العلم القليل في مصطلح الحديث…وهذا الحديث الموضوع : ” اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد”مشتهر على الألسنة كثير، ومن العجب أن الكتب المؤلفة في ” الأحاديث المنتشرة” لم تذكره ،،،( قيمة الزمن عند العلماء، هامش ص 29) ، وعدم ذكرهم له مرده انه قول يردده السلف ، وأقول برغم ان الحديث غير مرفوع فمعنـاه صحيح ، وهو مـتـضمّـن في قوله تعالى : ” وقل رب زدني علما ” والقاعدة الشرعية عندنا تقتضي “عدم تحديد طلب العلم بزمان “، بل ان السلف حرصوا على العلم والتعلم حتى اخر رمق ، وشعارهم تحريم كتمان العلم ، ( الصحابي الذي علّـم الناس زراعة الجوز وهو يحتضر ) و( الحديث الشريف الذي يأمر المسلم بزراعة فسيلته التي بيده حتى لو سمع الصيحة ) .
النــتــائــــــــج :
مادمنا مكلفين بالتحصيل وطلب العلم حتى الرمق الاخير ، وكوننا مأمورين ببذل العلم وعمل الخير حتى لو قامت الساعة ، فهذا يدل قطعا على صلاحية المسلم ( والانسان عموما ) للعلم والازدياد منه ، وآلة العلم العقل فالعقل اذن صالح للتحصيل حتى الموت وبالتالي فطالب العلم لا يخرف ولا يرد الى أرذل العمر ولا يصاب بفقد الذاكرة وانهيار القوى الفكرية والطاقة العقلية الا بالحدود الدنيا ، وبحيث يظل صالحا للتحصيل ، وكما يقول أستاذنا د/ محمد فتحي الدريني : ” لو لم يبق صالحا لطلب العلم فهذا يعني ان الشرع قد كلــفـه بما لا يقدر ولا يطيق ، وهذا محال على الشارع الحكيم ،
والعلم الحديث يؤكد أنّ المَلَـكَـة المستعملة تنمو وتتطور ، أما تعطيلها فيعني خمولها وتراجعها ، المخ هو آلة التفكير والتعقل واذا عمل فانه يزداد نموا وتطورا وحركيةٍ ، أما اذا تركناه فلم يفكر ولم يتدبر فمآله التراجع والجهل والخرف والردّ إلى أرذل العمر مبكرا !
ولدينا أمثلة كثيرة من تاريخنا الاسلامي القديم والمعاصر ، أعلام جاوزوا المئة من عمرهم ولم يتبدل تفكيرهم ، ولم يختلطوا ذهنيّـاً أبدا ، فعبيد بن شَـريّة ناف على المئتين وخمسين عاما وكان يتوقّد ذكاء الى آخر يوم في عمره ، وقصة لقائه بسيدنا معاوية ( رضي الله عنه) مشهورة ، وأبوطلحة الصحابي الجليل رأى ولد ولده وقد جاوز المئة وهو في قمّـة التورّد الذهني وكذلك سيدنا أنس وغيره ، وممن تجاوز المئة نذكر سهل بن سعد، وعبادة بن الصامت، وأبي الدر داء، وأبي بن كعب ، رضي الله عنهم ، وأذكر منهم من التاريخ المعاصر جدَّ جدّي ( سماحة الشيخ الشريف عبدالباقي يوسف الحريري) وهو نقيب أشراف مصر والشام وقد ناف على المئة كثيراً ولم يتبدل فكريا،وكان بكامل قواه العقلية والبصريةوالسمعية ، ويؤثـر عنه قوله عن قوّة حواسّـه : " إنها ملكات حفظناها في الصغر فحفظهـــا الله علينا في الكبر " ...وفي كتب التراجم مزيد أمثلة ونماذج لمن أراد التوسع !
هذا والله أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين