أدرك تماماً أن هناك رصيداً معرفياً لدى كل واحد منا عن أثر الكذب وأنه صفة مذمومة، وأن أي إنسان إذا عرف في مجتمعه بأنه كاذب فإنه يكون إنساناً لا قيمة له ومحل تهكم واستهزاء. وندرك جميعنا أن الأكاذيب لا توصل للسعادة ولا تحقق نجاحاً بل إن حبلها كما يقال قصير، وعلى الرغم من كل هذه المعرفة ورغم كل هذا الإدراك التام لأثر وأضرار الأكاذيب فإننا في حياتنا اليومية نمارسه بطريقة أو أخرى.
هناك من يكذب بشكل واضح وصريح ولا ترف له عين أو كما يقال جفن، وهناك من يكذب باحتراف ويضع خطة للتراجع فهو يكذب بحذر، بمعنى يعطيك نصف الموضوع محرفاً بشكل تام، أما النصف الآخر فلا يأتي على ذكره، ولو قدر واكتشفت أكاذيبه فإنه يجد له أكثر من مخرج وأكثر من تبرير.
مع الأسف هناك من يكذب في تعاملاته حتى مع أقرب الناس له، زوجته في المنزل وأصدقائه في النزهات وزملاء العمل والوظيفة، والجميع لم يطلبوه أن يكذب أو لم يجبروه على الكذب، أو قادوه نحو أن يخترع أكاذيب. وبرغم كل هذا فإنه يجب علينا أن نتريث قبل تصنيف الناس ووصمهم بالكذب المطلق لأن هناك حالة اسمها الكذب المرضي، ومثل هذه الحالة مثبتة في علم النفس ومعروفة وهي تحدث بسبب اختلالات نفسية، وعادة يسهل اكتشاف الكذب المرضي لأن الشخص المريض يسرد قصصاً وبطولات وجميع من يستمع له يدرك تماماً بأنه يكذب لأن ما يقوله لا يمكن إسقاطه وتقبله على أرض الواقع، فهو على سبيل المثال يتحدث عن الثراء والأغنياء ورحلات وأمور عديدة هو أبعد ما يكون عنها بل بالأمس اقترض مئة درهم لتعبئة سيارته بالوقود.
وفي العموم فإن الكذب المرضي رغم تصنيفه فإنه لا يوجد له علاج، وعادة المرضى بهذا يستمرون في سرد أكاذيبهم وقصصهم الخيالية وبات مجتمعهم متآلفاً معهم ومع أحاديثهم، لكن هناك مشكلة أخرى وهي الإحراج الذي يصيب الأقارب مثل الأخوة أو حتى الأصدقاء المحبين، بل حتى الأبناء عندما ينتشر عن والدهم بأنه دوماً يكذب أو عن والدتهم بأنها امرأة تكذب بشكل مستمر، هذا بحق موجع ومؤلم.. فلنرفق ببعض ونلتمس لمثل هذا النوع المرضي الحذر وندعو لهم بالشفاء، ونبتعد عن الإيذاء والتهكم والسخرية، وبالمناسبة فإن هذا المرض يصيب الجميع دون استثناء سواء كان الشخص متعلماً أو غير متعلم.