تستحضر السورية جنى فوّاز الحسن في روايتها “أنا، هي والأخريات”، الصادرة عن “الدار العربية للعلوم ناشرون”، والتي وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية عام 2013، ميراثا مريرا من القهر وَسحق الذّات، عانت منه المرأة ولا تزال، وإن كانت أسبغت الحاضر بأيديولوجياته السّياسية والدّينيّة المتصارعة على روايتها. وعلى مدار هذا التاريخ العريض؛ قديمه وحديثه، كانت الأبوية هي الشوكة التي غرست في ظهر المرأة. وما بين التاريخين كانت المرأة ضحية لنصال الرّجل وخياناته.
كانت المرأة حاضرة عبر وعيها وذكائها في الزمانيْن؛ في الماضي استطاعت شهرزاد أن تروِّض الرَّجُل عبر حكاياتها الألف لِتُخَلِّصَ ذاتها وذوات لاحقات من بني جلدتها، كان ينتظرهن سيف مسرور، فانتقمتْ من شهريار بأن جعلته يقع أَسيرَ الحكاية، وفي الحاضر أورثت شهرزاد حفيداتها طرائق المراوغة والإفلات من هذه البطريركية، وفي بعض الأحايين الوقوف له بالمثل وردّ النِّصَال على النِّصَال، وتَرْك الأخاديد التي خلَّفها علامة على صِراعٍ بين الطرفين، انتهى في الواقع لصالح الرجل، وبهزيمته عبر الكتابة.
صراع الأيديولوجيا
بحيلة ذكية تنفّذ الرَّاوية التي تسرد عن ذاتها المنقسمة، على أب يساري مهزوم يندب حظه الذي لم يجعل عدالة الله -الغائب في البيت- تتحقّق على أرضه فيفجع بسقوط سور برلين وسيطرة الرأسمالية المتوحشة بعد انهيار الاتّحاد السوفيتي، وزوج (سامي) متديِّن يتخذ من الدّين وسيلةَ ضغط لقهر الزوجة، إلى ذوات متعددّة تتشابه في المصائر، فتوزّع سيرة القهر التي عانتها على آخرين، وقعن ضحايا ذكورية/ أبوية مُمْتثلة لأيديولوجيا متناقضة.
ليست صورة ذات الأم المنكسرة والمجهضة بفعل أبوي، إلا صورة واحدة من ذوات مُجْهَضة، شاهدة على حالات؛ الخُذْلان “سحر نفسها ضحية انهيار الشيوعية تارة، والنزعة الدينيّة المتشدِّدة تارة ثانيّة”، والانكسار “صديقتها هالة”، والموات “زينب أم البنات ضحيَّة الأيديولوجيا الدينية المتطرفة”، وفدوى زوجة الضابط العسكري غسَّان الذي اعتقلته المخابرات السورية، وما إن عادَ، وكان مسلوبا من كُلّ شيءٍ، حتى أنهي حياته بطلقة من مسدسه في لحظة صدق مع نفسه وعدم قدرته على أن يعيش في زيف تتويجه بطلا من قبل الناس وهو أبعد ما يكون عن هذا، والانغلاق “سامية ضحية القهر الأبوي”، أو حتى العدمية “هنادي زوجة ربيع، ضحية الرأسمالية”.
تتساوى ذوات النِّسَاء في الوجع الذي خلّفه صراع الأيديولوجيات، مع المدينة باعتبارها أنثى فصارت ساحة للعبث السوري تارةً، وأخرى انزلقت إلى ميدان صراع الهويات والنزعات الطائفية والحزبية. لا فَرْقَ بين سحر وهالة، والأخيرة كانت ضحية لأب مُتسلط، هزمها مُبكّرًا بعدم مسؤوليته، وقد وقع ضحية للبرجوازية التي تعلَّق بها، وللمدينة التي أهالت أحلامه مرتين؛ الأولى عندما فشل في السَّفر إلى بلد أوروبي، والثانية عندما ضربه الجنود السوريون أثناء بحثه عن ابنه إبراهيم، ثم أخ باحث عن صورة ذكورية صلبة وشديدة كالرجال الذين زاروهم واندرج تحت جلبابهم، ثم ضياع حلمها في أن تعيش في بلد أجنبي وتتعلَّم الأنكليزية وأن تصبح مضيفة طيران تنتقل كالفراشة من بلد إلى آخر.
هذا إلى جانب مدى صمودها أمام محن وفاة زوجها، ومرض ابنها، وتحاملها على الفقد والمرض، ومع هذا استطاعت أن تخلق مساحة سعادة من العدم، فراحت تطلق لنفسها العنان والتحرُّر، كنوعٍ من المقاومة، وأن تعيشَ بعيدة عن رقابة الرجال، أو حسب منطقها “إنني أخونهم قبل أن يخونوني”.
في ظل هذا العالم المُحْبِط، وما أعقبه من هزائم وخيبات، خلقتِ السَّاردة عوالمَ موازية لشخصياتها فأعطت لكلِّ شخصية بدائلها في مقاومة أوجاعها. فسحر البطلة والراوية التي كادت تنفصل عن هذا الواقع الذي حسدت إخوتها “لقدرتهم على الانخراط (فيه) بينما بقيت (هى) في الخارج”، ظلت تبحث عن أشياء كثيرة، تستعيد بها ذاتها الغائبة والتائهة، أو تعوض بها افتقادها شعور الدفء العائلي بغياب الأب والرجل بصفة عامة، فخلقت عوالم بديلة عبر الاستهامات التي تستدعي فيها الرجال إلى سريرها، بصورة مغايرة عن صورة الرجل المهزوم القابع في البيت يجترُّ عذاباته، أو بصورة إيروسية توقدُ فيها الحياة.
وفي سنوات دراستها بـ”صناعة منازل وأثاث غير الذي شاهدته ولا تريد الأم تغييره”، أو أن تختلق “أناسا وهميين”، لكي تضحك وتتهكم على مَنْ حولها، أو في صورة استحضار الشخصية النقيض لها، كشخصية هالة التي أرادتها سحر لنفسها، فالرِّجال الذين عرفتهم سحر في استهاماتها “تجرأت هي (هالة) على معاشرتهم في الواقع”.
أما البديل المؤلم فهو الخيانة التي سقطت فيها مع ربيع في لحظة بحث عن ذاتها التي قهرها زوجها سامي، فوجدتها بين يدي ربيع. وقد وصلت الخيانة إلى الجنوح في الانتقام، وبقدر الألم الذي عانته منه كانت تُفَكِّر في اللَّذة التي ستحصدها وتنتقم بها سرًّا من سامي وإهاناته لها. فهي تهرب من واقعها ومن الرجال المحبطين لها إلى آخرين كما تقول “لأتدثر بأجسادهم وأروي عطشًا إلى الاعتراف بشخص ما يدعى أنا”. أما هالة فقاومت الوجع الذي يعتصرها، من خلال السُّخرية والتَّهكم تارة، أو بأسلوبها في “أن تحيا بأقل ما يمكن”.
من بين هذه الشخصيات تظل سامية الشخصية الوحيدة التي استطاعت أن تقهر الأبوية، برفضها الزواج من غير الذي تحبه (نبيل)، وإن خذلها بالزواج من أخرى، إلا أنها أصرت على موقفها، وقهرت ذاتها دون الرضوخ للضرب والحبس، أو حتى دون أن تأبه لنداءات الجسد في الليالي المسهدة وظلت تنام قرب كبريائها، وإن كانت تعلم “بأن كبرياءها ليس رجلا”.
العجيب أن كل هزائم الرِّجال أحالتها إلى ذات المرأة رغبة في تحقيق ظفر ما أيًّا كان نوعه. فهزيمة الأب اليساري وإحباطه من واقعه وفردوْسه الذي لم يأت، انعكسا على زوجته بانفصاله التام عنها، وتجريده لهويتها، ثم وأد أنوثتها في مرحلة لاحقة، وكذلك على أبنائه بغيابه عنهم مع حضوره المادي، وأيضا على العالم المحيط به بسخطه منه، واستعلائه عليه، حتى نعته الجيران بالكافر. نفس الحال نجده عند سامي المتدين والمنتمي لأيديولوجيا مناقضة للأب، يُمارس سلطته على زوجته سحر، فبعد أن اعتبرته المخلِّص لها من رتابة البيت وضجر الأم، بقسوته يحوِّلها إلى نفس الصورة التي استنكرتها على أمها، فما جرؤت على الاعتراض أو أن تُبَدِّل وضعية الدجاجة التي كانت عليها الأم.
كينونة ضائعة
حالة البحثِ الدائمة عن ذاتها المحطَّمة والتي لازمت السَّاردة، وكينونتها الضائعة، انعكستْ على السَّرد الذي يقوم به راوٍ متكلم، من خلال التساؤلات التي تطرحها ذات السَّاردة على نفسها وعلينا نحن المروي عليهم، كنوعٍ من الظفر بإجابة أو البحث عن موطنِ الخَللِ، كأن تسأل: “كيف تحوَّلتُ من كلِ تلك المثالية إلى امرأة خائنة وقذرة.
قدَّمت المؤلفة نصا يندرج تحت كتابات الجندر، كشفت فيه عن عالمها الخاص ليس من منظور ضيق، بل وسَّعَتْ زاوية الرؤية، لتشمل تنويعات مختلفة، ممن وقع عليهن القهر بمستوياته المختلفة ومن ضمنها قهر السلطة “نموذج والد هالة، وغسَّان زوج فدوى” إلا أنها استطاعت أن تَثْأَرَ لهذه الذَّوات المجهضة بالكتابة كوسيلة مقاومة ضدّ أبوية الرَّجُلِ، وأنانيته المُفْرِطَة، بشكل خالٍ من أي تقنيات حداثية، سوى سرد ينساب من ذات مجروحة، تغلب عليه المنولوجات الطويلة والاستهامات، وقد كشفت هذه الأخيرة عن بواطن الأنثى وشواغلها عندما تضيق ذاتها، في مسعى نبيل للتحرُّرِ من كافة القيود.