خلق الله تعالى الانسان وجعله خليفة في الارض ، وقضى له سننا ثابتة لا تتغير ولا تتبدل الا بمشيئته ،ولحكمة يراها . ولكي يقوم الانسان بالواجبات التي خلق لاجلها على الارض ، لا بد له اولا من اشباع حاجات اساسية استودعت فيه ، وذلك حتى يتمكن من العمل والانجاز ضمن ظروف طبيعيه ، وقد ادرك رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الحاجات عندما هاجر باصحابه من مكة الى المدينة ، حيث القيت على عاتق هذه النخبة من المهاجرين والانصار اعباء تأسيس دولة الاسلام في المدينة المنوره ، ومعلوم ان المهاجرين عندما تركوا موطنهم (مكه) لم يأخذوا معهم شيئا من متاعهم ، والكثير منهم خرج بالثياب التي عليه ، والكثيرون ايضا تركوا اهلهم واسرهم وراءهم في مكه اما لكونهم مستضعفين لا يستطيعون الهجرة، او لانهم آثروا البقاء على دين قريش فكان الفراق بينهم حتميا ، وعندما نزل المهاجرون المدينة لم يكونوا في وضع اجتماعي مستقر ، فقام النبي صلى الله عليه وسلم بتنظيم اوضاعهم الاجتماعيه فيما يعرف بالمؤاخاة بين المهاجرين والانصار تم على اساسه اقتسام الاموال والدور فيما بينهم، حتى يقال ان من كان من الانصار متزوجا باكثر من امراه كان يطلق احدى زوجاته ويتزوجها المهاجر ، وهكذا الى ان استقرت حياتهم الاسريه وانطلق هذا المجتمع المتجانس للقيام بالمهام الموكولة اليه على خير وجه .
لقد ادرك علماء النفس وخبراء التربية اهمية تلبية حاجات الانسان الاساسيه حتى يتمكن من المساهمة في بناء صروح المجتمعات ، وبعض العلماء صنف حاجات الانسان الاساسيه والثانويه في تسسلسل محكم ، ومن اشهرهذه التصنيفات ( هرم ماسلو للحاجات) الذي يعتبر الحاجات الانسانيه اساسا للدوافع ، وتظهر في قاعدة الهرم الحاجات الاساسيه وسماها الحاجات الفيسيولوجيه كالطعام والشراب والنوم والجنس والامومه ، واشباعها يؤدي الى حالة توازن في الفرد ، يليها حاجات الشعور بالامن ثم الانتماء يليها حاجة الشعور بالتقدير ثم تحقيق الذات وفي قمة الهرم تأتي حاجة الفهم والمعرفه ، ويقول (ماسلو) ان الحاجات التي في اعلى السلم الهرمي لا تظهر حتى يتم اشباع الحاجات التي في القاعدة الى حد ما .
ان الانبياء والرسل عليهم السلام ليسوا استثناءا من سنن الكون ، فلقد قال تعالى في سورة الرعد :
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآَيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ ( .
اذن النبي ايضا بحاجة الى الشعور بابوته وبنوته وبالحاجة للانتماء الى عائلة ونسب ، ولعل في هذا تأكيد على بشرية الرسل جميعا بلا استثناء ، وهي رسالة موجهة الى الشعوب التي افتتنت بانبيائها وصلحائها ونسبتهم الى جنس الهي ،وعبدتهم من دون الله ، فلا يليق بالاله ان يلد او يولد ، وتنتفي عنه صفة الالوهية بمجرد كونه يأكل الطعام ويمشي في الاسواق ، كما صور لنا القران .
لكن الله خالق السنن ومسبب الاسباب قد يستثني بعض خلقه من تلك الحاجات والغرائز التي ركبها في نفوسهم ، فالنبي يحيى عليه السلام وصفه ربه بانه كان سيدا وحصورا ، أي لا حاجة له في النساء ، وهذه حالة شاذة تؤكد القاعده التي ذكرناها ولا تنفيها .
وتذكر لنا المصادر الدينية من كتب سماويه وعلى رأسها القران الكريم كيف كان ابراهيم عليه السلام يتوق الى الابوة، وكيف بشرته الملائكة باسماعيل واسحاق بعد ان نال منه كبر السن , وكذلك زكريا ودعائه ومناجاته لربه ان يهبه ولدا صالحا .
ان سور القرآن الكريم تزخر بسرد الصور الانسانيه للانبياء وتسليط الضوء على الجانب الخاص من حياتهم ، فها هو ابراهيم عليه السلام يبر والده ويخاطبه ويعظه بالكلام اللين ويحاول هدايته الى طريق التوحيد ، ثم يعده بان يستغفر الله له (قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ ۖ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي ۖ إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا)
ونوح عليه السلام وهو في لحظات رهيبه ، حيث الامواج تتلاطم من حوله ، والماء يبتلع كل ما في طريقه ، ها هو يحاول حتى آخر لحظه انقاذ ابنه من الهلاك ودعوته للايمان بالله الواحد ليتسنى له حمله في سفينة النجاة ، ويأبى الابن الاذعان لنصيحة ابيه ويحول بينهما الموج فكان من المغرقين، وتبقى حسرة في قلب الاب نوح ، انه قام بالشأن العام الذي كلفه الله تعالى به خير قيام ولكنه بطبيعته الانسانيه يلتفت ايضا للشأن الخاص به ، فيحمل هم ابنه ويحاول انقاذه من موت محقق .
وموسى عليه السلام وبعد ان التقطه آل فرعون من الماء وقرروا ايوائه ورعايته ، ها هو بتدبير الله يعود ثانية الى حضن اسرته ويعرف ذاته وانتمائه ، وعندما يوحي اليه الله عز وجل ويكلفه بالتوجه الى حيث فرعون ودعوته الى الحق ، يشعر بالحاجة لوجود اخيه هارون الى جانبه ، فيمن الله تعالى عليه باخيه ويشد ازره به .
والنبي الاعظم محمد عليه الصلاة والسلام كان يحيا حياة اسرية طبيعية ، يمازح زوجاته او يخاصمهن كأي زوج . يفخر بانتماءه الى عبد المطلب حيث قال ( انا النبي لا كذب ، انا ابن عبد المطلب) ، ويحاول في لحظات احتضار عمه ابي طالب ، انقاذه من النار بدعوته الى الايمان بالله والتوحيد ولكنه لم ينجح في مسعاه ، فالقلوب بين يدي الله يقلبها كيف يشاء . وفي المدينة المنورة وبعد الهجره ، كان النبي عليه السلام مثالا للاب الحاني على ابناءه يحزن لموت ابنه ابراهيم ويقلق عندما يشعر ان ابنته فاطمه قد نال علاقتها بزوجها علي بعض المنغصات فيسعى للاصلاح بينهما كأي اب . وهو ايضا الذي حزن اشد الحزن لمقتل عمه حمزه ، وكان ذات مرة سائرا بجوار بيت من الانصار يبكون شهيدا لهم فقال قولته المشهورة التي ذهبت مثلا ( اما حمزه فلا بواكي له) .
وابراهيم عليه السلام عندما بشرته الملائكة اولا بغلام عليم ثم اخبروه انهم في طريقهم الى سدوم وعموره لانزال العقاب الالهي بساكنيها ، ها هو يجادل ويقول ان بها لوطا وانه من الصالحين ، فقد شعر بالقلق على ابن اخيه من ان يناله الضرر ، كما قد يقلق أي عم صالح على ابناء اخيه (فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط ، إن إبراهيم لحليم أواه منيب) سورة هود 74 – 75
اما قصة يعقوب مع ابناءه فهي من اروع القصص التي تمثل حب الاب لابنائه ، وتشرح بر يوسف النبي بأبويه وتسامحه مع اخوته .
لكن النبي ، وبرغم كونه بشرا مثلنا ،الا انه يتمتع بصفات نفسيه وملكات تؤهله لتلقي الوحي عن خالق الكون والسير في الطريق الذي امره به من هداية للناس، وهو طريق وعر في غالب الامر وليس مفروشا بالورود ، لذلك كان لا بد ان تتوافر في النبي صفات مميزة له كالذكاء الخارق والخلق القويم والعزم وصلابة الاراده وافراغ القلب من كل ما يشغله عن اداء وظيفته الساميه . من هنا تراجع الانبياء عن التشفع في ذويهم وابناءهم والاستغفار لهم عندما تبين لهم اصرار هؤلاء على الكفر ، ففي سورة التوبه الاية 114-113( ما كان للنبي والذين آمنوا ان يستغفروا للمشركين ولو كانوا اولي قربى من بعد ما تبين لهم انهم اصحاب الجحيم ، وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم ) أي ان ابراهيم استغفر لابيه بسبب وعد الاخير له بان يؤمن بالله ، ثم عندما تراجع الاب عن وعده تبرأ الابن منه .
ونوح ايضا تعرض لامتحان مماثل ، ففي سورة هود ( ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين ، قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألني ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين ) .
وهكذا ،، لا يليق بعبد انعم الله عليه وخلع عليه خلعة النبوة ، لا يليق بان يكون في قلبه غير الله ، وان يكون مقياس حبه وبغضه للقريب والبعيد هو ايمانه بالله وطاعته وانقياده له .
في الختام لا بد من التنويه الى ان العديد من الانبياء قد شابت علاقاتهم الاسريه العديد من المنغصات ، من ابن غير بار ، الى والد مصر على الكفر ، الى زوجة شرسة الطباع تغري السفهاء بزوجها وتعين عليه . وفي هذا عبرة وعظة حتى يعلم الانسان انه قد يأتيه الضرر والجحود والنكران من اقرب الناس اليه ، فينبغي ان يصل دائما ما بينه وبين خالقه ولا يراهن الا على ما عند الله عز وجل .