كما يظهر فإن معضلة إيجاد الصديق المخلص هي مشكلة في أمم الأرض كافة، وهي أيضاً قضية قديمة منذ الأزل كما يظهر وحتى يومنا الحاضر، ولن أذهب بعيداً ففي تراثنا العربي يعتبر الخل الوفي أسطورة لا أكثر، فالصديق الوفي من ضروب الخيال وقد قيل الغول والعنقاء والخل الوفي من المستحيلات. وبقليل من البحث ستجد في أمثال الشعوب المختلفة حكماً تتحدث عن ندرة الصديق والوفاء، ومن منا اليوم من يندب حظه مع أصدقائه؟ ألسنا جميعاً نردد البيت الشعري الذي يقول: ما أكثر الأصدقاء حين تعدهم، لكنهم في النائبات قليل.
لكن من الأصدقاء؟ أليسوا أنت وأنا وهو وهي، ألسنا جميعاً نحمل مفردة الصديق، فلماذا نتوجع ونتألم ونصف هذه الصديقة أو تلك بالجحود والإنكار، وننسى أنفسنا وننسى أخلاقنا وقيمنا؟ فهل نحن نتهم الآخرين بالتقصير في منح الصداقة حقها وروحها ووصفها لننزه أنفسنا من الخطأ؟
هذا الموضوع ومدى انسجام الأصدقاء وسببه ووفاؤهم وصل لمراكز البحث العلمي، بين يدي دراسة علمية جديدة توصلت إلى أن الناس قد يختارون أصدقاءهم ممن يملكون سلاسل الحمض النووي التي تشترك معهم دون علمهم. وتقول الدراسة إن الباحثين الذين أجروا الدّراسة قارنوا بين التنوعات الجينيّة لـ 2.000 شخص تقريباً ممن لا تربطهم أي علاقة بيولوجية، ووجدوا أن التنوعات الجينيّة كانت مشتركة بين الأصدقاء أكثر من الغرباء.
وبهذا يمكن أن تدعم هذه الدراسة علمياً المقولة الشهيرة بأن الأصدقاء هم العائلة التي نختار. فقد درس الباحثون بيانات الحمض النووي للأشخاص بالإضافة لأصدقائهم، بعد تحليل حوالي 1.5 مليون علامة من علامات التغييرات الجينية، ووجد الباحثون أن لكل زوج من الأصدقاء مستوى العلاقة الجينية نفسه تماماً كابن العم الرابع للأشخاص أو أكبر أكبر أكبر جد.
وقال المشارك في الدراسة نيكولاس كريستاكس وعالم الاجتماع في جامعة يال: «ينفرد البشر بأنهم يخلقون علاقات طويلة الأمد مع أبناء جنسهم، ولكن، لماذا نفعل هذا؟ لماذا نُكَون صداقات؟ ليس هذا فحسب، فنحن نُفضل مصاحبة من يشبهنا. وقد قام الباحثون بهذه الدّراسة لأنهم أرادوا تقديم حساباً تطورياً عميقاً لأصول وأهمية الصداقة».
أعتقد أن هذا الهوس العلمي والاجتماعي بهذا النوع من أنواع العلاقات الاجتماعية – الصداقة – مبرر ومفهوم ويجب ألا يثير الاستغراب أو الدهشة لأنها موجودة في كل زوايا حياتنا وهي مرافقة لنا منذ نعومة أظفارنا وحتى يومنا.. وصدق الإمام الشافعي عندما قال: «سلام على الدنيا إذا لم يكن بها .. صديق صدوق صادق الوعد منصفاً».