عند الإعلان عن هدنة ، عند الإعلان عن ما يسمى استراحة المحاربين ، وهي في الحقيقة استراحة المساكين
تتجسد الكثير من الأحلام التي كانت مغيبة في أيام الحرب الدامية ، تتجسد بكل بساطة الحياة المجردة من أي فلسفة حمقاء ،
ومن أي توابع لحرب خرقاء شعواء ، تتجسد طالبةً من المستمتعين بساعات الهدنة أن يفرحوا لأنها هنا .
إنّ جُل خلايا الأدمغة قد فُرِضَ عليها حظر التجوال مذ قصفت إشاراتها بالعنف المفرط والقوة العاتية ،
أمّا ما تبقى من بعض خلايا في الأدمغة فإنها لا تعمل إلّا باتجاه واحد وهو الإمعان في استغلال كل اللحظات الخاضعة لوقت الهدنة المسموح به .
(3 أكواب من الدقيق - ملعقتين من البيكنج باودر - 3 بيضات – ملعقتين من الفانيلا – ثلاثة أرباع الكوب من الزيت – كوب من السكر – كوب من الحليب )
هي الوصفة الأولى لِ ( كيكة الشاي ) التي تتعلمها أي فتاة في مجتمعنا وتجربها إلى أن تتقنها ،
تقدمها مع أقداح الشاي المطعّم بالميرمية شتاءاً أو أوراق النعناع صيفاً ، هي وبكل بساطة بداية الطريق لكل فنون الطبخ الحديثة ،
فمن لا تتقنها لا تستطيع التقدم للخطوة التالية والتي هي أصعب قليلاً ، وكل خطوة جديدة هي أصعب بدرجة ،
إلّا أن النجاح في الخطوة الأولى يبشر بالخير أن الفتاة ستجتاز كل الخطوات وبالتالي كل الصعوبات .
تُعرف المرأة في غزة بأنها الأنشط على الإطلاق ، المتقنة لفنون الطبخ ، والمدبرة لشؤون البيت بامتياز مشهود
تحفظ الكثير من الوصفات عن ظهر قلب ، تحفظ أكثر منها على أوراق دفاتر ،
أو في باطن غلاف كتابٍ (لابن تيمية )، أو على هامش صفحات رياض الصالحين أو الرحيق المختوم ،
أوعلى الجزء الأبيض من أوراق دواوين (لنزار أو درويش) الدواوين التي تحمل كلاماً غير مفهوم لنساء امتهنّ حصاد الهموم ،
فلا يكاد يخلو بيت من بيوتات غزة من هذه التصنيفات المتناقضة على أرفف المكتبات المثقلة بالأسماء .
مع بدء سريان الهدنة ، تنسى الفارّة من الموت إلى الهدنة كل ما هو محفوظ أو مكتوب ، لا يبقَ في الخلايا الدماغية العاملة لديها إلّا الوصفة الأولى ،
من الممكن لأنها كانت مخزّنة منذ خيوط الصبا الأولى في أدراج خلفية قديمة لم يطلها حظر التجوال ولا أنياب الموت الأسود .
لا تذكر امرأة غزة إلّا (كيكة الشاي) ولو أرادت أن تستمتع ببعض البذخ والإسراف في ظل الهدنة فمن الممكن أن تضيف مسحوق الكاكاو لجزء من الخليط ،
فتصبح الكيكة ما بين اللون الفاتح الحالم بانتهاء الألم والغامق الدال على واقع هدنة ستنتهي قريباً .
أوهام تخلقها المرأة القابعة في قلب الموت و تسرقها من الحياة : أنها مازالت على قيد الحياة .
سنين طويلة ، انتقلت لي فيها العدوى ، عدوى من امرأة غزة ، عدوى سرقة الحياة .
تنامى إلى مسامعي أنها الهدنة ، وتعطّلت لغة الفنون إلّا من وصفة حفظتها فتاة في الغابر من الزمان ،
طبّقتُ المقادير ، لاحظتُ جَور إصبعي على زر ماكنة خلط المقادير ، إلى أن نبهني أحد المنتظرين لكيكة الهدنة أنه يكفي فقد تم خلط المزيج وتجانس وانتهى أمره ،
أيقنتُ أنني ضربته ضرباً مبرحاً عن غير قصد ، فتغليظ الضرب انتقل إلى تطبيق وصفة بسيطة .
تم خبزها ، والتأكد من تمام خلقتها ، تُرِكت لتبرد حسب الأصول ، تم تقطيعها أيضاً حسب الأصول ، رافق إكمال صناعتها مشروب الشاي الوطني .
ومنذ أول خطوة إلى اّخر مشهد ، كان الشعور بنقصان الوصفة لشيء ما هو هاجسي ، هو الشعور الذي طغى على كل العملية ، عملية سرقة الحياة ، هناك أمر ناقص !
تأكدتُ مرات عديدة من المقادير وكانت كاملة ، إلّا أنها في الحقيقة لم تكن .
وعند القضمة الأولى ، تبدى النقصان ، وعُرف مكمنه ، ذلك الشعور الذي ينتاب السارق اللص الذي ما تعود السرقة ،
إلّا أنه فعلها وكان يغمره الذنب عند كل لحظة يرغب فيها بالاستمتاع بما سرق .
عند القضمة الأولى ، كانت الغصة الاولى ،
تكورت المادة المسروقة في منتصف بلعوم السارق ، دافعةً بحنجرته إلى المقدمة لتُشكل تفاحة اّدم الاّثم ، ولتقرر أن ما تأكله الاّن هو حرام
لأنه بكل بساطة (مسروق) ومنهيٌ عنه في كتاب الحياة .
تأكدتُ حينها أن الوصفة كانت تنقصها الغصة ، وعند أول قضمة استحضرت الحياة المقدار الناقص وأضافته سريعاً لتضفي الكمال والتمام لوصفة حفظت منذ قديم الزمان .
كيكة الهدنة تتكون من نفس المقادير السابقة لكن أضيفي إليها الغصة .