سيطر الاهتمام بالمظاهر الشكلية على عقول فئات من مجتمعاتنا. وصار الشغل الشاغل لديهم هو العناية والاهتمام بما هو سطحي، دون تكليف النفس عناء التعمق للغوص أكثر في لب وجوهر الكينونة البشرية، والوعي بخصوصية الهوية القومية. وذلك من أجل خروجهم على الأقل بأفكار لا تتصف بالعقم، وتعطي انطباعات منطقية، فضلا عن إمكانية خوضهم في أحاديث مفيدة مثمرة، بدل الثرثرة في أي حديث كان وكفى.
والملحوظ أن الاهتمام بالمظاهر الشكلية لا يقتصر على مناسبة معينة، أو على حدث محدد، بل إنه يشمل العديد من المناسبات، ويتسلل إلى كل الأحداث، ليلتقي مؤيدو المظاهر في نقط التباهي والتفاخر والتعالي على الغير، بطريقة تفكير استهلاكية تسعى إلى مواكبة تطورات ما يعرض بالأسواق من تقليعات ومنتجات، كثيرا ما تحدد العقول البسيطة شخصية المرء بناء عليها، وتكسب رضا من توفرت فيه شروط الانسجام مع المظاهر الشكلية التي يؤمنون بها.
وفي سياق تسليط الضوء على ظاهرة الانجذاب نحو الشكل دون المضمون، وبعيدا عن السياسة وعن أي انتماء أو تحزب أو تعصب، نسوق هنا مثالا دالا كثر فيه القيل والقال مؤخرا، ألا وهو ما تم تداوله من طرف عشاق المظاهر الشكلية، حول ” جلباب ” زوجة رئيس الحكومة المغربية، التي ظهرت رفقة زوجها في مهمة رسمية بالبيت الأبيض في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث لم يهتم هؤلاء المظهريون بجدوى هذه الزيارة، أسبابها، دواعيها، حيثياتها، وآثارها، بقدر ما صبوا اهتمامهم على الزي الذي ارتدته المرأة، ليصفوه بأقدح الأوصاف وينعتوه بما يتوافق وذوقهم الخاص.
إن المتشبعين بالمظهر الخارجي، لا يكف لسانهم عن التنويه بحفلات الزفاف المبالغة في البذخ، وبالأثاث الفاخر الذي خرج عن نطاق المألوف والمعتاد بين الناس العاديين، وبالماركات والعلامات التجارية المرفقة الغالية إلى حد السفه، غافلين عن كون كل ما يتلفظه لسانهم ما هو في حقيقته إلا إشارة لعارض نفسي مرضي، يتطلب تدخلا طبيا بغرض العلاج، لكون عقولهم اتجهت نحو منحى استعراضي فارغ، يكترث للتافه ولا يعتني بالجاد والمسؤول.
لعل الاختلاف واضح جدا بين أن يلفت المرء الانتباه إليه بالشكل على حساب الجوهر وجدية العمل، حيث أن الاهتمام المبالغ فيه بالشكل يأسر من دون شك السطحيين، بينما يشد الاهتمام المطلوب العقلاء والجادين إلى مستوى الأداء الإيجابي والإنتاج المفيد والمردودية الخصبة، فيتدخلون بتصحيح الأخطاء إن توفرت، ويقدمون انتقادات حكيمة هادفة، يستفاد منها في القادم من الأيام .
ولا تنسحب المظاهر الشكلية على ما هو ذو طبيعة مادية دائما، بل قد يمتد الأمر الى ما هو عقائدي، أقصد ” التدين”. فهذا المظهر يستعصي حصره هو الآخر، ويجسد عدم انضباط مجتمعاتنا، وغرقه في مستنقع التخلف. ‘ذ يختبئ المظهريون الشكليون في جلباب الدين والتدين، إما وراء لحية، أو يحتمون بكتاب الله عز وجل، بشكل مغرض، والله بريء من سلوكاتهم، ويتسترون خلف سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، الذي لا يشرفه اصطفاف أقوام مثلهم، في صفوفه عليه الصلاة والسلام، بسبب تصرفاتهم البعيدة كل البعد عن كنه السنة النبوية الشريفة السمحة، والقيم الإنسانية النبيلة .
معلوم أن فارق المسافة بين الشكل والمضمون جلي وكبير، مهما حققا من انسجام يجمع بينهما، إلا أن الجوهر هو ما يستأثر بالاهتمام في الحالة الطبيعية. لذا نوجه كلمتنا لمن يسيل لعابه أمام التوافه، واقفا عند القشور، حارما نفسه من فرصة اكتشاف اللب والنهل من منهل الجوهر.
إن الحياة أعمق مما يتصور هؤلاء وأمثالهم، وهي أبعد مما حصرت فيه عقولهم وقيدت به أفكارهم، فقديما قالوا : ” ليس كل ما يلمع ذهبا” ، واليوم نقول : الناس جواهر وليسوا مظاهر.