يقال إن هناك مبدعاً آخر للنص، وهو الناقد، وإذا أمعنا النظر جيداً سنجد أن هذه المقولة تعبر بحق عن وظيفة الناقد، بل وأهمية المنجز الذي يقدمه ويقوم بدراسته، ولدى الكثيرين في الوطن العربي التباس بالغ في هذه الوظيفة، بل وتشوه في مهام وأعمال الناقد والمنجزات التي يقدمها، لعلي أضرب مثالاً حياً وقد يكون ملموساً لدى البعض وهو حصر هذه المفردة "النقد" في الأعمال الأدبية وحصر وظيفة الناقد في مجال النصوص الإبداعية وحسب، بينما النقد أعظم ومفهومه أوسع من هذا الاختزال، فهو لدى أمم أخرى موجود في كل أجزاء المنجز الإنساني أياً كان نوع هذا المنجز ولونه، حيث تجد النقد في الفنون التشكيلية والموسيقى والعمارة والهندسة والرياضيات والكيمياء والفيزياء، بل إن النقد مرافق لكل اختراع ومبتكر جديد يتم تقديمه، وأعتقد أن هذا يعود لسبب جوهري وهو فهمهم الحقيقي لوظيفة النقد ورسالته .
من شبكة الإنترنت التقطت كلمات جميلة وتحديداً من موقع ويكيبيديا، حول تعريف النقد، حيث يقول: "النقد هو التعبير المكتوب أو المنطوق من متخصص يسمى ناقداً عن سلبيات وإيجابيات أفعال أو إبداعات أو قرارات يتخذها الإنسان أو مجموعة من البشر في مختلف المجالات من وجهة نظر الناقد . كما يذكر مكامن القوة ومكامن الضعف فيها، وقد يقترح أحياناً الحلول، وقد يكون النقد في مجال الأدب، والسياسة، والسينما، والمسرح وفي مختلف المجالات الأخرى، قد يكون النقد مكتوباً في وثائق داخلية أو منشوراً في الصحف أو ضمن خطب سياسية أو لقاءات تلفزيونية وإذاعية" .
أريد في هذا السياق أن أسلط الضوء على نقطة جديرة بالانتباه تتعلق بخلل في وظيفة الناقد، وهي بحق معضلة كبيرة في أداء هذا الدور وهذه الرسالة وهي تتعلق بكذب الناقد، فكيف يكذب الناقد؟ يكذب عندما يقدم عملاً أدبياً، فيضفي عليه هالات من المديح والإطناب والإشادة، فيخيل إليك وأنت تقرأ تلك الرؤية النقدية أنه يتحدث عن عمل أدبي غير مسبوق، وبعد أن تقتني هذا العمل- شعراً، رواية، مجموعة قصصية - تجد الفجيعة، تجد الكذبة فأنت أمام عمل مهترئ، غير متماسك، ضعيف لغوياً وأسلوبياً، وغيرها من العيوب، لكن لماذا الكذب؟ السبب هو آلية اختيار الأعمال الإبداعية، فالناقد، في معظم الحالات، لا يملك رؤية محددة لعمله النقدي، كما أنه لا يملك مقاييس ومعايير للعمل الأدبي الذي يريد أن يتناوله بدراسة أو مطالعة نقدية، فالذي يتحكم بهذا الجانب هو مدى المعرفة بالمؤلف، وإذا صح التعبير (شطارة) المؤلف في الوصول إلى النقاد، وطريقة تواصله معهم، وكيفية تقديم نفسه، بمعنى أنه على كل مؤلف أن يتقن مع التأليف فنون الاتصال والتواصل مع النقاد، حتى يلقوا نظرة على منجزه الأدبي .
لذلك نشأت في الوطن العربي ما يسمى بالصحبة أو الشلة أو مجموعة الزملاء، الذين يجتمعون في المقهى أو المواقع العامة دورياً ومن هناك يتبادلون المنافع فيما بينهم، فيقدمون ترشيحات لبعضهم بعضاً، ويوصون ببعضهم بعضاً، ويكتبون عن بعضهم بعضاً، والناقد لا يبحث عن المنجزات الأدبية، ولا يلاحق المتميز، ولا يستفزه النص، ولا يحاول أن يتعرف إلى أقلام جديدة، يقدمها للساحة، ويدعمها .
والناقد إذا وُجد فإنك تلاحظه منفصلاً عن واقع حركة التأليف، فهو إما أن يكون قد غرق في النظريات النقدية الحديثة أو القديمة، أو أنه يقدم دراسات وبحوثاً منهجية تخصصية، وهذا جميل، لكنه لا يفيد الحركة الأدبية، كما أنه ينفصل عن الجمهور المتذوق، فلا يقدم أي عون أو مساعدة في فهم النصوص، وطبيعة التأليف . بمعنى أنه حدث انفصال إذا - صح التعبير- بين الناقد ومجتمعه، وانفصال آخر بين الناقد، وزاده، أو وظيفته، وأقصد انفصاله عن النصوص الأدبية نفسها، يجب أن يتم نقد النقد وتقويمه ودراسته وتمحيصه، لأن في تطوره ومعالجة عيوبه تطوراً وتقدماً لكل الفنون الإنسانية ومنها الأدب .