الارشيف / عالم المرأة / أخبار المرأة

صورة المرأة وكتابة الاحتجاج في 'زمن الأخطاء' (1 / 3)

  • 1/2
  • 2/2

تكشف النماذج النسائية كما جسدها الصوغ الروائي في "زمن الأخطاء" لمحمد شكري عن صورة ثقافية يمكن أن نقرأ فيها وعبرها صورة المجتمع بكل ما يموج فيه من أعطاب نفسية واختلالات اجتماعية.
لقد قدم شكري في هذه الرواية صورة للمرأة باعتبارها بنية ثقافية تخدم منطق السرد في تركيزه على عالم الغرائز الذي مثل في سياق الرواية طبقة سردية، توخى المؤلف من خلال الحفر فيها بعمق الكشف عن وضع المرأة في ظل مجتمع ذكوري لا يسمح لها سوى بحضور شاحب وباهت.
فالمرأة، كما تصورها الرواية، تابعة للرجل وخاضعة له. إنها موضوع لمغامراته الجنسية ومجال لتحقيق نزواته وإشباع غرائزه واستيهاماته.
لقد مثلت المرأة أداة لرصد تحولات المجتمع المغربي وكتابة تاريخه السري في الفترة التي أعقبت مرحلة الاستقلال، الأمر الذي جعل من صورة المرأة في هذه الرواية مرآة حساسة وشفافة تنعكس عليها الأخطاء الكبرى التي ارتكبها المجتمع في حق أبنائه.
• سردية الذات وشعرية الكتابة المضادة:
يتشيد الأفق الجمالي في "زمن الأخطاء" انطلاقا من متاح السيرة الذاتية، حيث تستند الرواية، في بناء معمارها النصي ومحتملها الجمالي، إلى كتابة حميمة تستدعي اللحظات المثيرة من حياة المؤلف. فشكري يمثل الشخصية المحورية في "زمن الأخطاء". وهو كذلك السارد الرئيس واسم المؤلف في ذات الوقت.
يحكي في هذه الرواية سيرته الذاتية وواقعه الشخصي بصيغة سردية يتفاعل فيها ويتشابك الذاتي والموضوعي، والواقعي والمرجعي، والمحكي والمعيش.
وإذا كان ميل الكاتب إلى تشييد سرد ذاتي استنادا إلى بناء حكائي يقوم على سرد حياة الآخرين قد منح سيرته طابعها الروائي الموضوعي، فإن ذلك لم يؤد بها إلى الخروج عن ميثاقها الخاص باعتبارها رواية تتوخى تمثيل الأخطاء الكبرى المحببة إلى صاحبها متوسلة في ذلك بممكنات التخييل السردي التي تتيح استقصاء تجربة حياتية ذاتية مثيرة وقاسية.
يكشف التأمل الدقيق في رواية "زمن الأخطاء" أنها شيدت بناء مفتوحا على أفق جديد في مجال الكتابة الخاصة بالسيرة الذاتية عندما قدمت نموذجا مضادا لنسق الكتابة عن الذات كما شاع في نصوص الروائيين العرب المعاصرين؛ فإذا كانت الوظيفة الأساس لكتابة السيرة الذاتية تتمثل في التطهير عن طريق الاعتراف، فإن "زمن الأخطاء" صدرت عن وعي شقي يحتفي بالأخطاء الكبرى إلى درجة هجاء الذات والانتقاص منها، حيث تزخر الرواية بالأوضاع السردية والمشاهد الروائية التي تتناقض تماما مع مطلب الاعتداد بالنفس والفخر بإنجازاتها كما دأبت على ذلك معظم النصوص الروائية التي أنجزها كتاب السير الذاتية العربية. بل إن نقد الذات يرتفع أحيانا في "زمن الأخطاء" إلى درجة التجريح والسخرية المرة.
- "نشرت لي جريدة العلم قطعة نثرية "جداول حبي" مع صورة بالبابيون. دوخني الفرح وسكرت احتفالا بموهبتي الأدبية. اشتريت أعدادا كثيرة وزعتها على رفقائي لأشعرهم بأهميتي بينهم. فكرت: ابن الكوخ والمزبلة البشرية يكتب أدبا وينشر".
- "أحلق وجهي مرة أو مرتين في اليوم إلى حد البرنزة. أتعطر حتى صرت أحمل في جيبي قارورة صغيرة من عطر الجيب. ابن البراكة وعشير الفئران يتأنق. يتحضر. يتطور. يخرج من جلد خشن ليدخل في جلد ناعم".
غير أن الإمعان في هجاء الذات والاعتراف بوضاعتها يكسبان المؤلف داخل السياق الروائي نبلا من طبيعة خاصة يتلاءم مع شعرية الكتابة المضادة التي بدأها شكري في سيرته الشهيرة "الخبز الحافي" ثم واصل ترسيخها في نصوص سردية لاحقة أبرزها "زمن الأخطاء" و "وجوه".
يغدو نقد الذات في كثير من الأحيان نقدا للمجتمع وكشفا عن عيوبه وتناقضاته؛ فالبغاء والمثلية الجنسية والمخدرات والعنف الأبوي وزنا المحارم من المسائل التي دأب كتاب السير الذاتية العربية على تجنب الخوض فيها، لأنها تجرح الذوق بسبب تعارضها مع الثقافة السائدة، كما أن المجتمعات العربية تحكم في الغالب على الضحية وتبرئ الجلاد.
ولذلك كان أهم ما أثار اهتمام النقاد والقراء في هذه الرواية، وتسبب بالتالي في نجاحها هو خرقها للمألوف وخروجها عن السائد في كتابة السيرة الذاتية. وهو أمر يمكن إرجاعه بالدرجة الأولى إلى الأحداث الفريدة التي عاشها المؤلف إضافة إلى الصدق والجرأة في نقل الأحداث وسرد المواقف.
لقد صاغ شكري سيرته الذاتية بلغة عارية لا تأنف من تصوير المشاهد العنيفة والصادمة محاكيا بذلك عوالم القاع والهامش بلغة تحتية جريئة تنقل الواقع بلغته وتحاكيه بأسلوبه متقصدة من ذلك إحداث صدمة جمالية لدى القارئ الذي تعود على السير المكتوبة بلغة أنيقة تمجد الذات وتسرد الإنجازات كما هي الحال في "الأيام" لطه حسين، و"أنا" للعقاد و"حياتي" لأحمد أمين و"في الطفولة" لعبدالمجيد بن جلون، و"أوراق" لعبدالله العروي.
تنزع أغلب النصوص الروائية التي تكتب انطلاقا من ممكن السيرة الذاتية إلى الاحتفاء بـ "أنا" المؤلف وتجميل صورتها؛ فسيرة الذات لا تكتب في الغالب إلا بعد تحقيق انتصار أو عقب الانتهاء من إنجاز أو عند منعطف حاسم من مسار حافل.
إنها النص الذي يتوج تجربة حياة ناجحة الغاية من سردها تقديم الدروس والعبر للقراء والناشئين. مما يجعل هذا الصنف من الإنتاج السردي يتسم بألوان ملحمية تخضع لإرادة التميز والاعتداد بمنجزات الذات. وهذا الأمر يتناقض تماما مع صورة الذات المسحوقة التي تعرضها "زمن الأخطاء":
"ثيايي تتسخ وتبلى وتفوح منها روائح جسدي. القمل يعشش فيها. حذائي يتسرب إليه الماء. شعري يغزر ويتدبق وسخا. أحكه باستمرار حتى يسود ما بين أظافري. حين أمشطه إلى الأمام. لأنظفه من قشرة الرأس والغبار، يتماشط منه قمل أسود نشيط. في كل مشطة لا أقل من ثلاث أو أربع قملات سمينة تتحرك بحيوية".
يظهر من هذه الصورة الروائية أن القصدية التي وجهت برنامج السرد الذاتي في "زمن الأخطاء" لم تضع لها هدفا الإعلاء من قيمة الذات وتلميع صورتها. فشخصية السارد في هذه الرواية لا تستمد قيمتها من القدرة على قهر الصعاب والتغلب على المحن، ولكن اكتمال البطولة يتحقق من خلال السقوط الفردي والانهيار الجماعي. ويتجسد ذلك روائيا عن طريق تصوير بؤس الإنسان ومحنة الوطن.
• إدانة الواقع: السرد وكتابة الاحتجاج
تتميز الكتابة في "زمن الأخطاء" بأنها عنيفة متوحشة وانتهاكية. تقول الحقيقة الروائية عارية عن أصباغ التعابير الرومانسية المموهة والخادعة:
"أنا لا أعرف كيف أكتب عن حليب العصافير، واللمس الحاضن للجمال الملائكي، وعناقيد الندى، وشلالات الأسود والعندلات. أنا لا أعرف كيف أكتب وفي ذهني مكنسة من بلور. المكنسة احتجاج وليست زينة".
إن الجرأة التي كتبت بها "زمن الأخطاء" مكنتها من الحفر عميقا في طبقات الزمن المغربي مسلطة بذلك أضواء كاشفة على المناطق المعتمة في مغرب ما بعد الاستقلال. إنها كتابة تنتقد الواقع وتفضح المسكوت عنه بما تصور من مشاهد البؤس الإنساني والتخلف الاجتماعي اللذين عانت منهما فئة عريضة من الفقراء والمهمشين:
"ركبت حافلة الحي الجديد بحثا عن مدرسة المعتمد بن عباد. حي مليء بنبات الصبار والغبار والأزبال والأراضي البور … مساكنه أكواخ من طوب وقصدير وأهله بدويون. سحناتهم كالحة مثل أسمالهم. أطفالهم يتغوطون ويبولون قرب أكواخهم".
وبهذا الاعتبار يمكن النظر إلى "زمن الأخطاء" بوصفها رواية ترصد مظاهر القهر النفسي والإحباط الاجتماعي. مما جعل الكتابة الروائية تتحول إلى وسيلة لإدانة الواقع والاحتجاج عليه. ذلك ما تعكسه هذه الصورة التمثيلية التي يلخص من خلالها السارد قصة التحولات التي عصفت بحياته في فضاءات طنجة ولياليها الرهيبة:
"أحسني أحيانا مثل ثور المصارعة الذي يخرج من نفق الظلام إلى النور لينطح الهواء، ويشحذ أماميته وخطمه في الرمل مبددا صدمته قبل أن يبدأ صراعه مع قدره المحتوم".
تكشف هذه الصورة الروائية عن انقسام الذات وتوزعها بين الأضداد والمتناقضات؛ الظلمة التي نمت فيها مشاعر وأحاسيس السارد في الماضي، ودهشة النور الذي يقلق الوعي في الحاضر، وبينهما طاقة الحياة التي بددتها الذات في الاصطدام بصخرة الواقع الأليم الذي يحاصرها ويحد من انطلاقها وفرحها بالحياة.
إنها صورة تختزل التجربة الحياتية للسارد المشحونة بالأخطاء الكبرى التي يحبها ويسعى إلى إعادة تمثيلها روائيا بغية تأبيدها وتخليدها عبر الممكنات التي يتيحها فعل الكتابة: "أكتب هذه المذكرات في حانة جديدة ممسوخة".
وإذ يعكف السارد على كتابة تاريخه الخاص، فإنه يؤرخ في نفس الآن للحياة السرية التي كانت تموج بها فضاءات طنجة ولياليها الساهرة، ليالي الحانات والمواخير الرخيصة التي يرتادها المهمشون والمنبوذون بحثا عن مغامرات عابرة تنسيهم هموم الواقع وقساوة الحياة. وهو ما جعل من الرواية "قراءة للتاريخ السري لطنجة بمواخيرها وحاناتها وبارات الأجانب فيها، والتاريخ الشفهي لثقافتها التحتية ولروادها من صعاليك المغرب والعالم معاً وسجل تحولاتها وأوجاع بنيها، ولا يمكن الفصل في هذا المجال بين تحولات المدينة وتحولات الراوي، فقد ادغم كل منهما في الآخر.
ومن هنا يمكن النظر إلى "زمن الأخطاء" بوصفها صيغة سردية ترصد سيرة الألم والفقدان، تحتج على الواقع وتدينه من خلال استحضار الذكريات وأخبار الزمن الماضي المشحون بمشاعر القهر والإحباط. إنها كتابة "أنا" متألمة تفتح الجرح وتطرح أسئلة الوجود والكينونة من خلال تدفق سردي يتجادل فيه محكي الذات ومحكي الشخصيات. مما يتيح لنا القول إن غاية المؤلف من كتابة هذه الرواية لا تنحصر في التعبير عن تجربة عاطفية انتهت وصارت إلى الفشل، ولكنه توخى الكشف عن المسارب الخلفية لعوالم القاع الاجتماعي المترعة بالقسوة والعنف "عشت مع برابرة الليل في الدروب الضيقة والحظائر المغثية والخمارات المريبة".
لقد انطوت الرواية على تصوير لأزمة الوطن ورد في معرض حديث المهاجرين الإسبان عن فاشية فرانكو، حيث توخى الكاتب من نقل هذا الحديث، فيما يبدو لنا، التعبير عن وضع سياسي مماثل عاشه المغرب في الحقبة التي ترصدها الرواية، لكنه عندما بدأ الحكي عن معاناة المهاجرين المغاربة انفجر الجرح في أعماقه، فجاء التعبير عن الواقع الأليم بجمل وعبارات مفعمة بالمرارة والفجيعة:
"لمن هذه الأنغام الحزينة التي أسمعها من بعيد؟ إنها للراحلين في الجمارك وهم يزحفون واقفين. بطء زحفهم يذلهم حتى نخاع العظام. إن مذلة الوطن أقسى عليهم من مذلة الغربة".
من الواضح أن رواية "زمن الأخطاء" تميل إلى سبر أغوار الزمن المغربي من خلال صور سردية تتركز على فضاءات الهامش وشخصيات القاع، حيث تتحول أزمة الشخصيات الروائية إلى مرآة تعكس أزمة المجتمع وهشاشة الواقع، لأن أزمة الشخصيات وإحباطاتها مظهر من مظاهر اعتلال المجتمع واختلاله، ويمكن اعتبار صورة المرآة كما جسدها التمثيل الروائي في "زمن الأخطاء" أبرز مظهر لأزمة الواقع الاجتماعي في مغرب ما بعد الاستقلال، حيث رصدت الرواية واقع البؤس الذي عانت منه شريحة عريضة من مجتمع الهامش المغربي وتحدثت عنه بلغة جريئة مستفزة ومتحررة من الحشمة الزائفة. تعبر عن القهر وتشخصه لكي ترفضه وتدينه.

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى