لقد عاش المؤلف حياة مليئة بالتجارب القاسية والمؤلمة مما تسبب له في انهيار عصبي استدعى دخوله إلى مستشفى الأمراض العقلية التي قدم عنها محكيات مثيرة تضمنت مشاهد وصورا مأساوية لشخصيات انهارت بسبب الظروف الصعبة التي عاشتها في واقع ما قبل الجنون:
"المزميري يعتبر المستشفى مسكنه الحقيقي. لا يزوره أحد. له من الرفقاء هنا أكثر مما له في الخارج. هناك مريض حمال في محطة القطار لا يدخل المستشفى إلا في الشتاء لأنه يكون في شبه بطالة. هو أيضا لا يزوره أحد".
وجد السارد في فضاء المصحة العقلية ملاذا من زيف الواقع وإحباطاته التي لم يعد قادرا على تحملها أو التعايش معها. فطالما حلم بمكان معزول ينعم فيه بهدوء النفس واطمئنان القلب بعيدا عن "العلاقات البشرية القذرة" التي سئم منها وسئمت منه:
"أكثر أحلامي تذكرا هي طيراني، غالبا ما يكون طيراني فوق الأحراج وينتهي بالنزول أمام مدخل كهف أتخيلني الوحيد الذي يعرفه. أتلذّذ فيه بعزلتي بعيدا عن الروائح البشرية التي سئمت منها وسئمت مني".
شعر السارد بين المجانين بالتعاطف ودفء التواصل الإنساني اللذين افتقدهما في علاقته بـ "العقلاء" خارج المستشفى، فالحضور بينهم ومحاورتهم منحاه راحة البال وجددا له الأمل في الحياة والمستقبل. ولذلك لم يكن يغادر المستشفى إلا لقضاء بعض الحاجات الضرورية:
"إنها الخامسة صباحا. عندي امتياز للخروج من المستشفى. لا أخرج إلا لشراء حاجياتي. إن الوجوه في الخارج تبدو لي بليدة، مزعجة، أما هنا فهي وجوه أذكاها الشقاء والقلق الدائم. إن المجانين يفتحون لي أبواب الإلهام لأطل على العالم".
ومن جهة أخرى يبدو عالم الجنون والانهيار كما تصوره الرواية أليفا بالنسبة إلينا، لأن فضاء المصحة العقلية يشبه الواقع خارجها؛ الانحرافات نفسها والمآسي ذاتها (جناح خاص للموظفين وذوي الامتياز الاجتماعي - الاستغلال الجنسي للمريضات من قبل المشرفين على توفير العلاج لهن - لا يخلو المستشفى من عاهرة محترفة أو أكثر - ممارسة الجنس على الحيوانات ....). وهو ما جعل من المصحة العقلية "صورة كنائية للحياة الخارجية فهي وجهها المقلوب، لكنه لا يختلف عن العالم الذي اعتاد تقديمه، الغرائز هي ذاتها، أنماط السلوك تتكرر داخل الأسوار وخارجها بنفس الإيقاع".
• الذات والمرآة: صورة المرأة وسيرة القهر
لعل أبرز مظهر لاشتغال الصنعة الروائية في "زمن الأخطاء" أن كاتبها استطاع التحرر من قبضة الذات والانفلات من شرنقة أهوائها وتقلباتها. حيث تتأسس طبقات السرد في "زمن الأخطاء" وتتنامى عن طريق توالي "بورتريهات" لشخصيات نسائية (ورجالية) تشكل مرايا مصقولة تنعكس عليها صورة الذات في مختلف أبعادها وتجلياتها. فمن خلال تأمل الذات في مرايا الآخرين تكتب "سيرة الأنا" باعتبارها تجربة حياة تتوزع على فصول الرواية بشكل يبدو عشوائيا، حيث تبرز وجوه فطيمة وكنزة وربيعة وحبيبة وسارة وباتريسيا وروساريو وسالية بوصفها مرايا تنعكس عليها ملامح الذات الساردة ليأتي حدث موت الأم بمثابة انقطاع الحبل السري الذي يضع نقطة النهاية لسيرة حياة ومسار رواية.
تبدو النماذج النسائية التي اعتنى الكاتب بتصويرها في "زمن الأخطاء" متباعدة ومنفصلة عن بعضها البعض. إذ لا تربطها أي علاقة يمكن أن تقود إلى تطور الأحداث وتناميها. ويكاد الجامع الوحيد بينها أن يكون صوت السارد الذي وحّد بينها في سياق سرد روائي ذاتي. غير أن النظر الدقيق في طبقات النص الروائي الذي شيده المؤلف من شأنه أن يكشف أن الشخصيات النسائية تشكل جزءا من شخصية السارد. إنها مرآته التي تنعكس عليها أزماته وإحباطاته؛ فالسارد عندما يجسد مآسي شخوصه من خلال ما يقدمه من صور روائية، فإنه يقدم في نفس الآن صورة لأزمته الشخصية.
وهذه الأزمة لا تعلن عن نفسها بشكل مباشر، ولكنها تنكشف تدريجيا من خلال صور الشخصيات التي تتوالى بطريقة تسهم في اكتمال صورة السارد وتكامل أبعادها. مما يجعل فهم الذات رهينا بالتأمل العميق في حيوات الآخرين، حيث تظهر النماذج النسائية بوصفها جزءا من هوية الذات وامتدادا لصورتها؛ فالشخصيات النسائية المتتالية تمثل شذرات تعبيرية تلتحم فيما بينها لتشكل في النهاية صورة ذات مبدعة حطمتها حياة الليل وإحباطات الواقع. لقد شكل التمثيل السردي لصورة المرأة في "زمن الأخطاء" مرآة تنعكس عليها صورة الذات الساردة بكل همومها وأوهامها.
إن صورة المؤلف لا تنكشف من خلال السارد الذي يروي الأحداث بضمير المتكلم ويكشف عن هويته الخاصة من خلال عبارات معينة فقط، ولكن صورته تتجسد كذلك من خلال انعكاسات الذات في مرايا الشخصيات التي تلتقي في كونها كائنات ليلية ترتاد الحانات والمواخير الرخيصة من أجل دفن همومها في الخمر والجنس: "لم يبق إلا مجد الذكريات المهزومة والجنون الكئيب، ودفن الحبوط في السكر ولغو الحانات ". وهو ما يتيح لنا أن نستخلص أن الغاية من كتابة "زمن الأخطاء" ليست تسريد الحياة في كليتها ولكنها توخت البحث عن الكينونة الخاصة بالذات في محاولة لاستشفاف حقيقتها وتبيين هويتها من خلال حضورها في العالم وانعكاس صورتها في مرايا الشخصيات النسائية التي صورتها الرواية؛ فهناك تقارب جناسي بين المرآة والمرأة، المرآة تجمع أجزاء الجسم لتمنحها صورة كلية هي "الصورة الجسدية" والمرأة تجمع الأهواء والمشاعر المبعثرة في بنية متماسكة تشكل "الصورة النفسية".
إن المرأة "مرآة نفسها" كما يتصورها السارد لكنها تغدو في التخييل الروائي مرآة لنفسها ولغيرها. مرآة تنعكس عليها صورة الذات وصورة المجتمع.
• المرأة /المثال: عشق ما لا يمكن أن يكون
يمكن اعتبار "زمن الأخطاء" تجسيدا روائيا لتجربة حب مستحيل ينفجر في قلب السارد بركانا وحريقا، لكن شيئا ما (قدريا ربما) يحول بينه وبين التحقق والاكتمال؛ فالحب يتحدد في هذه الرواية باعتباره عاطفة مستحيلة وصفها السارد نفسه بـ "عشق ما لا يمكن أن يكون"، وهي عبارة كثيفة تلخص العلاقة المتوترة التي جمعت السارد بالمرأة: "المرأة النور الخارق. المرأة الشفافة لم أجدها بعد".
كان السارد غارقا في ملذات الجسد عندما جرت أمامه عبارة "الحب الحقيقي" بعدما اكتوى بحب كنزة التي أشعلت في قلبه حرائق العشق ثم تمنعت عليه ورفضت أن تمنحه ما كانت تمنحه لغيره. ولأنه لم يعرف هذا اللون من الحب ولا جربه من قبل، رغم علاقاته النسائية المتعددة، فقد اشترى بعض الكتب التي تتحدث عن "الحب الحقيقي" مثل كتابات المنفلوطي وجبران ومي. وقد استخلص من قراءتها أن الحب كما تصوره هذه الكتب "حب مشروط بالموت أو الحزن الأبدي أو الجنون". وهذا اللون من الحب يتناقض تماما مع شخصية السارد وطبيعته تكوينه "كل عاطفة عاطفتي. إنني سليل العواطف القطيعية. سليل امبراطورية الحواس".
بعد محاولات عديدة في مجال الكتابة واجتياز عتبة النشر حاول السارد البحث عن "ملهمة" متأثرا بقراءته لقصص الأدب الرومانسي. التقى يوما فتاة سمراء فصار يتبعها بعد أن عرف أصلها ومحل سكناها. لكن انتماءها الاجتماعي جعل عواطفه تجاهها في دائرة "الحب المستحيل". إذ لا يمكن لفتاة تنحدر من طبقة اجتماعية راقية أن تلتفت إلى "ابن البراكة وعشير الفئران".
لقد كانت هذه العلاقة محكومة بالفشل بسبب التفاوت الطبقي. ولذلك بحث السارد عن بديل من طبقته. إنها حليمة، فتاة أمية ولكنها سمراء وجميلة ويمكن أن توحي له بقصيدة غجرية. غير أن طبعها الهادئ لن يوحي له بشيء مهم لأنه تعود على الطبع العنيف. الملهمة ينبغي أن تكون مترفعة ومتعالية. من ألم الحب يتولد الإلهام. ومن مآسي العشق المستحيل تنفجر منابع الكتابة. قدر السارد إذا حب مستحيل وعشق ممتنع:
"لم أسمح حتى الآن لأية عاطفة أن تخونني. لقد عشت دائما في حالة طوارئ. ما أحببت إلا ما كان هاربا. إن الحب مثلا لا يسحرني إلا إذا كان أسطوريا. أتحدث عنه دون أن ألمسه أو أعانقه".
لقد مثلت المرأة في بعض صورها ضبابا مشعا أكثر منها منطقة محددة. فهي أفق واعد وفاتن يلهث السارد نحوه دون أن يتمكن من الوصول إليه والالتحام به. إنها المرأة النموذج التي يحلم بها الرجل فينسج لها من خياله أجمل الصور وأحلى الصفات. مما يجعل المرأة تستمد قيمتها من كونها نموذجا متعاليا لا يعرف طريقه إلى التحقق أبدا:
"إن المرأة التي أعيش معها دائما إذا لم تجعلني أعزف عن كل النساء فليست المرأة التي ينبغي لي أن أعيش معها. ينبغي لها أن تكون هي كل النساء. وكل النساء لسن هي. ينبغي أن أميزها في الظلام حتى وإن تكن بين جمهرة النساء. إذا انطفأت الشموع يضئ كلانا الآخر. إذا حجبونا بستار سميك أراها وتراني".
في الوقت الذي كان السارد يدون فيه مثل هذه الخواطر عن المرأة المثالية كان يستعذب مضاجعة أحط النساء في مواخير طنجة الرخيصة. لقد شكّل الجنس بالنسبة إليه ملاذا من آلام الحب ومآسي العشق: "الاستمناء والجنس المنحط هما اللذان أنقداني من السقوط في فخ الحب الخائب".
بخلاف المختار صديقه الأعمى الذي يقرأ "ليلى المريضة في العراق" لزكي مبارك ويحيي تقاليد الحب العذري، لم يكن السارد يجد غضاضة في ارتياد المواخير الرخيصة لمعاشرة العاهرات لكي يدفن في أحضانهن خيباته النفسية وإحباطاته العاطفية: "أغرق نفسك في الجنس تنس هموم الحب. إن الحب هم كبير مثل خبز الفقراء".
لقد مثلت المرأة بالنسبة إلى السارد جسدا أكثر منها شخصا متعينا. كل ما يهمه أن يزدهي فراشه كل ليلة بامرأة تمنحه المتعة وتنسيه الهموم. ولا يهم بعد ذلك من هي ولا من أين جاءت ولا كيف غادرت:
"يحدث لي مرات في طنجة أن أستيقظ في فندق أو في بيت صديق ولا أعرف من هي التي تنام معي أو تغادرني نائما دون أن أراها".