يصف السارد لقاءه الأول بكنزة بعبارات سريعة مكثفة تشبه ضربات بفرشاة الرسم: "جالس في رحبة قهوة سنترال الحرارة تنعسني. آتية من طريق البحر مصبوبة في قميص وسروال أبيضين شفافين لصيقين بجسدها الرشيق. شعرها طويل أملس. شفتها العليا مقوسة. عيناها كبيرتان مسحوبتان. قطة أسيوية. قد تكون لها طباع قطة مشاكسة".
إن فتاة بهذه المواصفات جديرة بأن تثير في نفس السارد رغبة جامحة في مطاردتها ومحاولة الإيقاع بها. لقد راحت نفسه تحدثه بأحاديث حلوة لذيذة فيما خياله يرسم لها أزهى الصور والأشكال. الأمر الذي جعله يقرر أن يتبع الفتاة ممنيا نفسه أن تكون واحدة منهن. وهو ما تأكد له فعلا بعد أن رآها تدخل دارا تعود التردد عليها. أثناء مساومته للمشرفة على الدار تراءت له كنزة في البهو: "مختالة في خطواتها مثل نمرة شبعت من افتراسها. تباهت نظراتها ثم اختفت في كبرياء المعتصمات".
لقد أشعل تمنع كنزة حرائق الرغبة في قلب السارد وزاد من إصراره على مطاردتها والظفر بها. ولذلك لم يتردد في الانتقال ليسكن في نفس الفندق الذي انتقلت إليه محبوبته المتعجرفة مدفوعا بالعناد والفضول والمغامرة. لقد كان يدرك جيدا أن وجوده مع كنزة في نفس المكان "فخ" ينصبه لنفسه كي يزيد من تورطه في حب قاس وعنيد وقد أتاح له وجوده في نفس الفندق مع كنزة فرصة طالما تمناها وحلم بها. لقد عادت ذات ليلة ثملة لا تكاد تقوى على الوقوف. الأمر الذي استدعى تدخله من أجل مساعدتها على الصعود إلى غرفتها.
يصور السارد لحظة انفراده بكنزة التي طالما تمنعت عليه ورفضت الاستجابة لحبه: "خلعت حذاءها المذهب ومددتها على فراشها بكامل زينتها. تعيش لياليها بجلالها الكامل. جلست على حافة السرير عند قدميها وأشعلت سيجارة. أتأمل غيبوبتها وتنفسها الواهن. إن لها الآن جمال امرأة ميتة مشتهاة في زمن بابلي أو إغريقي. لم يعد فيها ما يغري. فقدت كل كبرياء صحوها وغزلها وتباهيها".
تكشف هذه الصورة الروائية عن النهاية المأساوية التي صارت إليها قصة حب عاصف. لقد أغرت كنزة السارد بجمالها وعنادها معا. كان يتمنى أن تستجيب لحبه وهي في كامل صحوها وجلالها. لقد كان طبعها الشرس أهم ما أثاره فيها وجذبه إليها. أحب فيها "القطة المشاكسة" و"النمرة التي شبعت من افتراسها". أما وقد فقدت كبرياء عنادها وتباهيها فإنه لم يجد فيها ما يغريه. في غيبوبتها فقدت كل جلالها الساحر وبدا جمالها الفاتن باردا وباهتا مثل جثة في كامل زينتها تشتهيها النفس لكنه تعاف مضاجعتها. "الفاكهة الإنسانية إما أن تقطف في أوانها أو تتعفن". في تلك الليلة حلم السارد بصف طويل من الرجال عراة يتناوبون على مضاجعة كنزة وهي تقول لهم "تعالوا إلي كلكم. زمني هو زمن النساء".
يلخص هذا الحلم قصة حب مستحيل، حيث يكشف محنة السارد ومعاناته بسبب تمنع المحبوبة وتعاليها. لقد كانت كنزة دائما لغيره ولم تكن أبدا له. لم ينس السارد "صدمة كنزة" رغم انشغاله بحب ربيعة الحسي المرح الذي لا موت فيه ولا جنون، لكنه لم يستطع نسيان المرأة التي أشعلت في قلبه حرائق الحب التي لم تنطفئ أبدا فصورتها ظلت حاضرة في خياله في كل الأوقات مثل لعنة أبدية:
"بصقت على كنزة في خيالي وأنا ألاعب ربيعة في الماء... كل حب ينسى بحب آخر... لكني لم أستطع أن أستبدل حب كنزة بحب ربيعة. إن الحب لعنة. وكنزة لعنتي".
لقد خلفت تجربة الحب القاسي والعنيد أثرا بليغا في نفسية السارد ووجدانه. لم يعد يؤمن بالحب فأصبح يرفض فتح قلبه لمن يطرق بابه حتى لا يعيد تجربة الحب الفاشل الذي ذاق مرارته واكتوى بناره "أهذه بطولة الحب؟ ليسقط هذا المستحيل. هكذا رفعت صوتي نحو السماء". لقد انتهت خيبات الحب بالسارد إلى الاعتصام بالوحدة بعدما تيقن أن العزلة بالنسبة إلى أمثاله قدر لا مهرب منه "إني وحيد ليلي. لا أحد يغزو وحدتي".
• المرأة/ المومس: غنائية الجسد ومآسي الروح
تضمنت الرواية كثيرا من المشاهد التي تصور واقع المرأة الممتهنة للجنس، ولم تخرج هذه الصورة عن تقديم جسد المرأة بوصفه سلعة تخضع لقانون العرض والطلب:
"في الطريق بغايا واقفات على عتبات بيوتهن أو يطللن ويختفين. كل حركاتهن فيها دعوة للدخول معهن. رجال وفتيان يغازلونهن. يسأل أحدهم عن ثمن الدخلة فيدخل أو يغادر إلى أخريات".
معظم النماذج النسائية التي صورتها رواية "زمن الأخطاء" يحترفن الدعارة وينغمسن في الجنس الرخيص "أغلبهن راهن بأسفله على أعلاه الهش"، لكن حلم الزواج وتكوين أسرة ظل يراودهن عل الدوام.
"سألته عن عشيقته القديمة لطيفة:
- أوه. تزوجت ولها الآن ثلاثة أطفال. عاشرت كثيرات بعدها لكن كلهن يردن أن يتزوجن".
- غير أن الرجل الشرقي يرفض أن يتزوج من عاهرة "ابتعد عن حب العاهرات. إن كل واحدة تحاول أن تنتقم من كل الرجال من خلال رجل واحد. كل واحدة تعتقد أن الرجل هو الذي فشل حياتها. كلهن فاشلات في الحب".
إن المرأة العاهرة كما تجسدها رواية "زمن الأخطاء" لا تصلح أن تكون زوجة ولا أما، لأن احترافها للدعارة وتعودها على حياة الليل جعلا الخيانة تسري في عروقها. وهو ما سيؤثر حتما على حياتها الزوجية مستقبلا ويشكل "عقدة" للزوج والأطفال:
"- ألم تفكر أن تتزوج بإحداهن؟
- أبدا.
- لماذا؟
- لا يمكن أن يتزوج قحبة. لا يمكن أن يكون لك أطفال مع قحبة.
- ما هو العيب؟
- سيعيشون معقدين عندما يعرفون أن أمهم كانت قحبة".
يكشف هذا المقطع الحواري عن ازدواجية النظرة إلى المرأة؛ فالعهر صفة تلصق بالمرأة وحدها دون أن تشمل الرجل. وهو ما يكشف عن اختلال المعايير في تقويم سلوك المرأة والحكم عليها. ذلك أن المجتمع يقسو على المرأة التي تضطرها الظروف إلى امتهان الجنس ولا يغفر لها مهما كانت الأسباب التي دفعتها إلى ذلك. فمثلا ظل قاسم يخجل من ماضي أمه التي كافحت بجسدها الشاب من أجل مستقبله. وعلى الرغم من أنها هجرت مهنة الجنس بعدما أصبح ابنها معلما، فإنه لم يغفر لها ظروفها ولم يستطع أن ينسى ماضيها.
وبالمقابل يحظى الرجل بنظرة متسامحة لا تحمله أدنى مسؤولية عن المصير المأساوي الذي يؤول إليه وضع المرأة الذي قد يكون مسؤولا عن تعهيرها: "إنه يحلم أن يتزوج امرأة لم تفسق حتى لا يكون أولادها معقدين وحتى لا تخونه. أما القحبة فأكيد أنها ستخونه".
لقد كان بدهيا أن يمثل الزواج بالنسبة إلى المرأة في ظل هذه الأوضاع منقذا من الضياع؛ فالمرأة تفضل أن تتزوج من شخص لا تحبه على أن تظل وفية لعلاقة حب مفتوحة على جميع الاحتمالات.
"- النساء يفضلن الزواج على الحب
- ما فائدة زواج بلا حب
- إنها مشيئة النساء
- اللعنة إذن على الحب".
ما ينفك السارد الذي ذاق الحرمان وجرب حياة التشرد والصعلكة يبدي تعاطفا واضحا مع المرأة التي اضطرتها الظروف لاحتراف الجنس. فقد صور واقعها المأساوي عندما تتقدم بها السنون ويخونها شباب الجسد:
"انتهى في طنجة زمن الدعارة الجميل. المواخير الخاضعة للرقابة الطبية منعت منذ سنوات. دور سرية وفنادق حقيرة حلت محلها لتمارس فيها المحترفات والهرمات مهنتهن مع الوافدين من البادية بحثا عن عمل وفقراء المدينة بأبخس الأثمان. بعضهن تبن إنقاذا لكرامة شيخوختهن ودينهن فصرن يعملن في المطاعم والفنادق ومحدثي النعمة".
تبدو المرأة التي تحترف الجنس في السياق الروائي ضحية واقع اجتماعي واقتصادي قاس لا يرحم: "سألته في حانة دينز بار عن التي دخل معها: إنها لطيفة، لكني لم أضاجعها لأن قصة احترافها أحزنتني. تعول أمها وطفلتها في عامها الأول".
إن الكتابة عن واقع الدعارة والجنس الرخيص موظف في سياق الرواية توظيفا اجتماعيا الغاية منه رصد صور الاستغلال الجنسي الذي تخضع له المرأة في ظل مجتمع ما يفتأ يدعي الحشمة الزائفة ويقدم نفسه باعتباره الوصي على حماية الأخلاق العامة. وقد عبر شكري عن غايته من توظيف الجنس الداعر في حوار أجري معه بالقول:
"ليس كل من يكتب عن المرأة الداعرة هو عدوها. الجنس الداعر أوظفه توظيفا اجتماعيا للكشف عن أسبابه الاستغلالية في أبشع صوره" (من جوار أجراه يحيى بن الوليد والزبير بن بوشتى مع محمد شكري القدس العربي 29/1/2002).
• المرأة/ الأجنبية: مكان الفتنة ومجال الاستيهام
تقترن صورة المرأة الأجنبية كما تجسدها رواية "زمن الأخطاء" بالفتنة والاستيهام، فالجسد الأنثوي عندما ينحدر من سياق اجتماعي وحضاري مختلف يثير الفضول ويغري بالاكتشاف ولو كانت صاحبته متقدمة في السن. فهو يتيح للمنتمين إلى مجتمع الهامش والقاع فرصة مضاجعة امرأة أجنبية يتوقعون أن يكون لجسدها مذاقا مختلفا عن بقية الأجساد المغربية التي جربوها من قبل في المواخير الرخيصة. تلك هي حالة سارة التى جاءت من العرائش إلى طنجة بعدما زهد فيها الجنود الإسبان. لقد كان "شبقها يستقدم شبابا من المدينة وغيرها بعضهم لفقره وكبته، وبعضهم افتنانا بالأجنبيات ولو كن هرمات".
لم تخرج صورة المرأة الأجنبية في "زمن الأخطاء" عن كونها جسدا يستعرض مفاتنه من أجل إثارة الرغبة والاشتهاء في نفوس الزبناء واستدراجهم إلى مغامرة جنسية مقابل مبلغ مالي:
"في قاعة الاستقبال فرنسيات وإسبانيات وإيطالية واحدة. تنانيرهن تكشف عن أفخاذهن الرشيقة. إذا جلست إحداهن على مقعد يظهر لون تبانها. كواعب أحذيتهن العالية تبرز مؤخراتهن بإغراء. عسل الجمال البشري ينتظر من يتلذذ بمذاقه".
يغري التمثيل الروائي للمرأة الأجنبية الممتهنة للجنس في "زمن الأخطاء" بعقد مقارنة بينها وبين زميلتها المغربية في ما يتعلق بطقوس الممارسة الجنسية، حيث يكشف النظر في الرواية أن المغربية تقبل على مضاجعة زبنائها من دون أخذ الاحتياطات اللازمة مما يؤدي الى انتشار عدوى الأمراض الجنسية: "أبول باستمرار. قلمي يؤلمني كلما بلت أو التوى. قليل من الصديد يسيل منه. إنها عاهرة إذن في مسوح العمل".
أما المرأة الأجنبية فقد ظهرت حريصة على الممارسة الجنسية الآمنة: "وضعت حبة بنفسجية قاتمة في طست. حللتها بإصبعها في الماء الدافئ واغتسلت. أعطتني صابونة معطرة لأفعل مثلها".
يظهر من الرواية أن الفرنسيات كن يبدين كثيرا من التعالي في علاقتهم بالمغاربة، حيث كانت ممتهنات الجنس من الفرنسيات يتحاشين مضاجعة الشبان المغاربة خاصة إذا كانوا منحدرين من أوساط اجتماعية متواضعة. وعلى العكس من ذلك كانت الإسبانيات أقل ترفعا "قد لا تقبلني أية واحدة منهن [فتيات مدام سيمون] عند ماري كارمن أفضل. دخولي مع إحداهن شبه أكيد. فتياتها إسبانيات. إنهن أقل ترفعا مع المغاربة من فتيات مدام سيمون".
• خلاصة:
لا يمكن فصل صورة المرأة عن واقع المجتمع المغربي وما يعتوره من أعطاب نفسية واختلالات اجتماعية، فعلى الرغم من أن السارد يعيد في هذا النص تمثيل الواقع الذي عاشه بطريقة روائية تخييلية، فإن المتن السردي في نهاية المطاف، لا يعبر عن قصدية مؤلف فرد، ولكنه يجسد رؤية جماعية ويعبر عن تمثلاتها للواقع وصور الوجود كما استقرت في مخيالها ولاشعورها الجمعي. فصور القهر المادي والنفسي الذي تتعرض له المرأة كما جسدها التمثيل الروائي انعكاس للواقع المغربي الذي يحكمه القهر والتسلط والاستغلال. وبذلك تكون صورة المرأة كما جسدها الكاتب روائيا في "زمن الاخطاء" تمثيلا سرديا لواقع المهمشين والمنبوذين.
والرواية بهذا المعنى محاولة أدبية وإنسانية تبتغي التأريخ للعالم السفلي ومجتمع الهامش في مغرب ما بعد الاستقلال. حيث يرصد الكاتب حالة البؤس والتهميش التي عاشتها شريحة عريضة من مغرب القاع الاجتماعي؛ مغرب الفقراء والمهمشين والمنبوذين الذين نقلهم المؤلف عبر ممكنات التخييل الروائي من كائنات بسيطة تعيش على "الهامش" إلى شخصيات رئيسة تحتل مركز السرد وتصنع "الحدث" الحكائي.
وبذلك تكون "زمن الأخطاء" قد تمكنت من إعادة كتابة حقبة معينة من تاريخ المغرب غير الرسمي مركزة على المحظور والمسكوت عنه بعيدا عن الخطابات السياسية المكرورة والشعارات الإيديولوجية الزائفة.