الطريق الى مسرح مونو في الأشرفية أقلّ زحمة هذا الصباح من بيروت الاختناق مع بداية الأسبوع. مهتمّون بدعوة جمعية “كفى” لحضور حملة “الهوى ما بينشرى” للتوعية على مآسي الدعارة والإتجار بالنساء، يملأون المسرح تباعاً، قبل أن تُطفَأ الأضواء. ترحيبٌ بمَن حضر، بينهم ممثلو وزارتي العمل والشؤون الاجتماعية، والأمن العام وقوى الأمن، فعرْضُ فيلم توثيقي يكثِّف البنية النفسية الهشّة في تركيبة نساء ينتهين بفعل الدعارة حشرات.
في تشوّه جسد العالم
تتراءى الخيارات ضيّقة، والأفق مسدوداً على نور قد يسطع من مكان. تختفي وجوهٌ تُشبه المُعذَّبة في الفيلم (45 دقيقة تقريباً)، وتزيد المساحة الضيّقة والضوء القليل صعوبة الوقوع على دمعة سقطت. ندرك استحالة تجرّؤ سيدة على المجاهرة بما قساه الدهر، فحتّى الشهادات الواردة مموّهة الصوت والصورة ودقات القلب. نسمع اعتذاراً بأنّ “كلماتٍ نابية” واردٌ ذكرها، والمعنيين (إخراج كارول منصور) تقصّدوا عرضها لارتباطها بالحقل المعجمي لسياق الخدمة الجنسية. تنسال من الذاكرة صورٌ بحجم تشوّه العالم. كانت في سنّ الثانية عشرة حين اغتُصِبت، ولمّا تزوّجت أرغمها زوجها على معاشرة الرجال. “أنا منهارة. انتهى كلّ شيء. حاولتُ الانتحار، ولا أدري كيف نجوت!”. سيدات من روسيا ولبنان وسوريا وأوكرانيا، يروين فظاعة الجسد الخاضع للبيع ولؤم التعايش في جحيمية اللحظة. تحاول “كفى” مخطابة “ثقافة” جماعية تُصوِّر فعل الدعارة نتيجةً متفلّتة من أسباب طارئة. المُشوَّه بعضه حصيلة ثقوب الروح لا آلام الجسد القادر مُجبَراً على تحمّل ثلاثة رجال يغتصبونه في زاوية واحدة. ثم يدفعون ثمن زبون، وفي أحسن الأحوال ثمن “زبون وربع”، بتعبير شاري خدمات جنسية يسخر. يُموَّه الوجه، فلا يفضح دمعاً حارقاً، ويُعدَّل الصوت، فلا يعلق في الحنجرة وجعٌ من هول الغصّة.
شربل والمجتمع
رجالٌ من الأمن العام وقوى الأمن الداخلي يحتلّون الصفّ الأمامي، فيصبحون الأقرب الى المشهد. سياراتهم في الخارج تنتظر نهاية كلّ هذا، لتعود بهم الى المكتب. مرعبٌ أن تحمل الحياة على نساء، فلا تترك لهن خياراً. والأكثر رعباً أن يجد البعض صعوبة في تبرير التحامل والتعاطف مع الضحايا. ثمة رعبٌ ثالث: ما قاله شابٌ حيال المرأة العاملة في الدعارة. يساوي شربل بينهنّ، ويرفض أنّ الظرف أقوى، في أحيان، من بعض البشر. لم يُظهِر الفيلم هيئته، فكان من السهل التخيُّل كم يطفح بالذكورية البغيضة المُصوِّرة الرجل الشاري الخدمات الجنسية حراً، والمرأة، أداة البيع، عاهرة. يصفها بـ”زبالة المجتمع”. بمفردات ليست صادمة، بقدر وقْعها، يفسَّر “وظيفة” المرأة العاملة في الدعارة تجاه جسده وأجساد أصدقائه، مُحقِّراً إياها بلسان مُتفلِّت من أي ضبط، ومُصوِّراً استجابتها لشهواته المدفوع ثمنها بمنتهى الحقارة. “هذه عاهرة. لا شرف لها ولا كرامة. لا يمكن أن تكون بشراً”. كان اختزالاً لنظرة اجتماعية تُصنِّف العاملات في الدعارة كائنات ينبغي أن تُداس.
رعب العودة الى الصفر
الدرب أمام “كفى” طويلة. تعي قلةٌ ظُلم أحكام القيمة ولعنة حراسة الأخلاق، والغالبية تعتاد إدانة البشر ومحاكمتهم وفق ما تشرّبت من موروث. ثمة دائماً عودٌ على بدء، فكلما يُطرَح نقاشٌ عن تصويب النظرة حيال الأخلاق كمفهوم اجتماعي، يُرتّب العودة الى الصفر، حيث العيب والتابو والتربية الدينية الصارمة، والتمييز بين الرجل والمرأة وفق اعتبارات محض جنسية، والرعب من الانتفاض على المجتمع، ومأزق أن يكون الجسد حراً في محيط مقيَّد. تدرك “كفى” أنّها يدٌ تحاول التصفيق بمفردها، وأن الآذان الصاغية قليلة. أمام محاولة خرق النمط، تقف عوائق تحول دون الانتقال من النظرية الى الواقع حيث يبدأ التغيير.
“دعارة” القوانين
يضحك جانبٌ من الحضور على أوصاف موجعة قالتها سيداتٌ في تفسير انهيارهن، ورجالٌ يمتهنون تحقير المومس. ضحكتهم مستغربة، ولعلّها لاحت ابتسامةٌ على وجه الحضور الأمني في المسرح، كما ابتسم أيضاً بعض مصوِّري وسائل إعلام تواكب الحملة. يجزم شربل (المجتمع) أنّ “العاهرة نفاية”، ولا يتردد في المجاهرة بأنه مهووس عاهرات. سيدةٌ باعتها والدتها منذ أن كانت مراهقة، فافترشت الشارع قبل أن تدفعها الأيام الى “بيع” الجسد. اليوم، على مشارف الخمسين، تمّنت لو تدوس كلّ يومٍ رجلاً. تأتي الأوكرانية أو الروسية الى لبنان بصفتها “فنانة”، وتُشغَّل في الدعارة. “فنانات” يجري توزيعهنّ بإشراف الأمن العام على “السوبر نايت كلوب”، يصبحن مُلكاً لزبون يكفي أن يبتاح زجاجة شمبانيا واحدة. تُدخّن الروسية بينما تروي كم هي مهينة شروط عقد العمل. يخرجن العاشرة ليلاً من الفندق ويعدن إليه الخامسة فجراً. يُقفل عليهنّ الباب ويُمنعن من الخروج ما لم يُزوِّدن صاحب الفندق باسم الزبون ورقمي هاتفه وسيارته. “متل ما أنا بدي بتعمل”، يقول “زبون”، كأنّه يجامع روبوتاً أو مخدّة تتنفّس. يُبيِّن الفيلم المبني على دراسات قانونية، صاحب الفندق أو “السوبر نايت” بريئاً من كلّ جُرمٍ يقع. فتيات نزفن، وأخريات حاولن الهرب بالقفز من الطبقة الثانية، ولا مُحاسبة، لا بل يُجرِّم القانون الحالي العاهرات ويساويهنّ بالمُستغِل. ولمّا سُئِلت سيدة عن رأيها بتعديل قوانين الدعارة، أجابت بالرفض: “لن يحميني ذلك. لن يردع دركياً قذراً أو زبوناً أرعن. سأصبح عاهرة شرعياً. وأنا عاهرة”، مُرددة اللفظ الشعبوي المُستعمَل كلما ظنّ أحدهم أنه يهين إمرأة.