إن للهجرة آثار عدة ترتبط في مجملها بمدى تكيف المهاجر مع المجتمع الجديد الذي يجد نفسه فيه. والمرأة كانت ولاتزال عنصرا من عناصر تلك الهجرة التي تلقي على كاهلها هموما وأعباء تفوق في أحيان كثيرة معاناة الرجل. فالمرأة العربية عندما يهاجر زوجها تؤنث الأسرة ويقع على عاتقها الكثير من الأعباء وعندما تهاجر المرأة مع زوجها أو عائلتها تتحمل هي تبعات التغيرات والتحولات التي تطرأ على حياة العائلة.
وظاهرة الهجرة ليست بجديدة في التاريخ البشري، فالإنسان في حالة هجرة منذ القدم، وهي تعني الإنتقال من مكان إلى آخر بقصد الإستقرار أو البحث عن حياة أفضل. وقد تكون الهجرة مؤقتة أو هجرة دائمة. وهجرة المرأة العربية إرتبطت عادة بهجرة الرجل، ولكن في العقود الأخيرة ونتيجة لتحولات الإقتصادية والسياسية التي يمر بها العالم والمنطقة العربية، أصبحت المرأة تهاجر ليس فقط للبقاء بجانب الزوج أو الأهل وإنما أصبحت تهاجر إما للدراسة والتحصيل العلمي أو رغبة في تحسين المستوى المعيشي لها ولأسرتها من خلال عمل مناسب، أو البحث عن مكان آمن بسبب ظروف الحرب وعدم الإستقرار السياسي، أو للتجارة والإستثمار والبحث عن آفاق أفضل،أو للتخلص من ظروف الإضطهاد والظلم الإجتماعي. وبالتالي فإن هجرة المرأة العربية طوعية كانت أوقسرا، تدعوها لضرورة التكيف مع المجتمع الجديد حتى تتمكن من فرصة العيش فيه بسهولة.
والمرأة العربية تتربى في بلدها الأم في ظل جملة من القيم والمبادئ الأخلاقية المستقاة من نسيج الثقافة العربية، وهي مبادئ وقيم في محصلتها النهائية تؤكد على الهيمنة الذكورية والسلطة الأبوية. وهذا الموروث الثقافي يدفع بالمرأة المهاجرة في غالب الأحيان إلى الإنطواء والعزلة ويضعف لديها قوى التطور والتغيير والتكيف مع الواقع الجديد. ومع وجود حاجز اللغة الذي يلعب دورا تراجيديا على نفسية المرأة، فإن الشعور بالغربة يتضاعف، فبدون إتقان لغة البلد المضيف تجد المرأة المهاجرة صعوبة في الإندماج في تفاصيل حياة مجتمع المهجر مما يزيد من شعورها بالغربة وإنعدام الثقة بالنفس والأمان، فيتولد لديها الإحساس بعدم الإنتماء لهذا المجتمع الجديد. وهذه المشاعر تتعاظم أو تتقزم وفقا للبلد المستضيف وطبيعة العلاقات فيه وأيضا وفقا لمدى الإستعداد النفسي للمرأة لمواجهة هذا الواقع. فتكون النتيجة في أغلب الأحيان محدودية في شبكةالعلاقات الإجتماعية والصدقات التي تبقى في الأغلب محصورة في إطار الأسر والجاليات العربية التي تعيش بدورها نفس المشاكل والهموم ولعل أبرزها الشعور بالوحدة.
كما أن معظم النساء العربيات في المهجر وخصوصا الجيل الأول من المهاجرين هنّ ربات بيوت لايعملن، وذلك إما بسبب الإفتقار لتأهيل المهني المناسب للإلتحاق بسوق العمل في بلاد المهجر، أو نزولا عند رغبة الأسرة العربية في تفرغ الزوجة لتربية الأبناء. إلاّ أنه سواء أكانت المرأة المهاجرة عاملة أو ربة بيت فإن نمط الحياة يتغيرتماما ليتوائم مع ماهو سائد في مجتمع المهجر. فالمرأة مطالبة في المهاجر الغربية بإحترام الوقت وتنظيمه، وأن تتعامل مع قيم جديدة تنظم الحياة عموما إما في شكل العلاقات بين أفراد الأسرة أو في العلاقات الإجتماعية الأخرى. وهذا التغيريعدّ تغيرا إيجابيا في مسار تغير يطال بعض الموروثات التقليدية التي بادت تخضع للغربلة بصورة لاإرادية وبالتدرج لصالح القيم السائدة في مجتمع المهجر، مما يجعل الأسرة تعيش نوع من الصراع من أجل التوافق والتوفيق بين الحفاظ على هويتها العربية وبين القيم الجديدة. وبما أن المرأة هي حجر الأساس في الأسرة، فإنها تلعب دورا مركزيا في التوفيق بين ثقافة الأسرة العربية الأصيلة النابعة من قيم تشربتها من مجتمعها وظلت مترسبة في وجدانها وهويتها ومعتقداتها الدينية وروادعها الأخلاقية، وبين ثقافة مجتمع جديد مغاير في قيمه وسماته وعاداته وتقاليده وأعرافه لما ألفته ودرجت عليه. لذلك غالبا ما نجد المرأة العربية المهاجرة تقدم تنازلات من أجل إستمرار دوران عجلة الحياة في المهجر، وحماية أفراد أسرتها من الضياع والذوبان والإنسلاخ عن الهوية الأصلية.
وإن كان موضوع الهوية مؤرقا بالنسبة للمهاجرين على وجه العموم، فإنه أكثر إثارة للقلق لدى المرأة المهاجرة. فالمرأة العربية أكثر عرضة لمشاكل التمييز العنصري والديني، كما أنها تُعد رمزا للإستقرار القيمي، وضمانة لإنتقال التقاليد والعادات التي تربت عليها للأجيال القادمة. فالمرأة المهاجرة لايقع على عاتقها عبء مقاومة التأثيرات السلبية للحياة في المجتمع الجديد على الأجيال الناشئة فحسب، وإنما تعمل أيضا على الحفاظ على الهوية من خلال تلقين أطفالها لغة الوطن، وزرع الوازع الديني والأخلاقي في نفوسهم.
فالمرأة العربية التي تعيش تجربة الغربة وما تنطوي عليه من هموم ومشاكل نجدها دائما تكافح من أجل إيجاد طريقة لتأقلم مع واقع الحياة في المهجر. فهي إن إختارت طريق العزلة والإنطواء، بحيث لا تعرف نفسها إلا من خلال الموروث الثقافي ومنظومة العادات والتقاليد والقيم التي جلبتها معها من بلدها الأم، فإنها بذلك تضع نفسها في موضع التناقض الكلي مع محيطها الإجتماعي الجديد، موصدة بذلك الأبواب أمام الآفاق الرحبة على الحياة التي يفتحها لها وجودها في مجتمع جديد. وإن تقبلت ثقافة المجتمع الجديد الذي أصبحت تعيش فيه بكامل تفاصيلها، وما تنطوي عليه من قيم وأعراف وتقاليد، وتدير ظهرها إلى ثقافة بلدها الأم، فإنها بذلك تنسلخ عن هويتها العربية الأصيلة.
ولكن هذا لا يعني أنه ليس هناك حل لهذه المُعظلة، فهناك من النساء العربيات المهاجرات من نجحن في بلاد المهجرمع المحافظة على هويتهن العربية الأصيلة. حيث أتقن لغة مجتمعهن الجديد، مما فتح لديهن أبواب العمل على مصرعيه، فأتيحت لهن فرصا أوفر، ليس فقط لأن العمل المنتظم يمثل فرصة للإستقلال المادي، بل لأنه يفتح أيضا المجال أمام تحقيق حياة إجتماعية غنية. وهؤلاء النسوة قد عملن بمبدئ "خير الأمور أوسطها"، حيث سعين إلى التوفيق بين الماضي والحياة في الوطن الأم وبين الواقع المُعاش في بلد المهجر من دون أن يطغى أحدهما على الآخر. وبهذا قد حللن التناقض بين الماضي والحاضر، عبر القبول بكل ماهو إيجابي ورفض كل ماهو سلبي في بلاد المهجر، مما يحقق التوازن الثقافي والقيمي الذي يُؤمن دخولهن بفاعلية في مُعترك الحياة في مجتمعهن الجديد، من دون أن يعشّن حالة إنفصام في شخصيتهن أو إنفصال عن ثقافتهن الأصيلة.