أتدري؟ في الغربة أصبح امرأة بلا حزن.. وﻻ فرح.. أشبه ظلّا عابرا.. أمشي على جرح الوطن.. أعدّ قطرات الدم الهاربة منه.. بعدد سنواتي النابتة في اﻷزقّة القديمة.. وشوارع جمعتْنا.. وبيت كان من المُمْكن أن يكون أجمل..
يُراودني الظلّ عن فرحي.. فأبتسم.. ﻻ شيء يزعج هنا.. ﻻ صفّارة منتصف النهار.. ﻻ أصوات أجراس الكنائس.. ﻻ عبث اﻷطفال على التُراب.. وأنا أترشّف قهوتي قُبالتهم.. لا سيّارات الأجرة الواقفة بانتظام في المحطّة.. لا السجائر التي تسكن أصابع العابرين.. لا حتى سيجارتي التي تُحرق أصابعي الشاردة..
لكن المكان بارد.. كثلج شتاء لم نلتق فيه.. بارد كلفحة ريح لم تحمني سُترتُك منها.. بارد رغم الشمس التي تكاد تُحرق جمجمتي.. وخريف يصغي لأحلام الشجر بهدوء..
الغربة ليست عراء طريق ﻻ أعرفه.. وﻻ عجوز تسألني بلغة أجنبية عن مكان محلّ الحلويات.. وﻻ رجل يبحث عمّن يساعده على قطع الطريق ولم أفهمه..
إنّها تشنّج بالشارع بين اثنين ﻻ أعرفهما وﻻ يُهمّني صراخهما.. حذاء جلدي في واجهة محلّ يغمز لي، وﻻ أريده.. مقهى في حديقة مُزهِرة أجلس فيه.. وقلبي لا يُزهر.. هدوء الليل وأنفاس العشّاق تُغري بالحبّ.. وأفتقدك/الحبّ..
الغربة يا صاحبي.. أرض ﻻ تورق بك.. وتراب ﻻ تبلّله خطاك.. الغربة سؤال كل صباح.. أين قُبلة الفجرِ؟ أين يد الله التي تحط على كتفي، و"أحبّكِ" بقداسة التراتيل؟
في الغربة.. ﻻ يُزعجني شيء .. وﻻ يعجبني شيء.. كلّ ما في الأمر.. أنّني غريبة حين أمدّ يدي فلا أمسك غير الفراغ.. أمشي على أرض لا تشبهك.. وشوارع لا تعرفني.. وأحياء ليس لي فيها جيران.. ومدارس لم أترك فيها كتاباتي على الحيطان.. وصنابير ماء لم أغتسل بها بعبثي الطفولي.. وشاشات تلفزية لم أشاهد فيها "عدنان ولينا" ولا "سنان" ولا حتى "ليلة القبض على فاطمة"..
في الغربة.. لا يعرفني الغرباء إلّا حين أخطئ اللغة.. وأنت لغتي.. فكيف لي أن أخاطبهم..
الغربة يا صاحبي.. أن أكتب اسمك على التراب فتلْتهِمَ الريح الحروف.. و.. ط.. ن.. أكتبها على السّطر كي لا تمحيها رياح الغربة.. وأمضي.. وأنت معي..