قبل سنوات طويلة؛ كان يحتضن كفها الصغيرة الضعيفة داخل كفه الكبيرة القوية، كأنما يخشى أن تفلت منه صغيرته، تجري لتقفز فوق رصيف يطل على البحر، طفلة تريد أن تنطلق وتلعب وتلهو. يصطحبها إلى مكانه المفضل، تجلس على المقعد المرتفع الذي يجعلها تشعر أنها كبرت لتتأمله، وهو يشرب قهوته، بينما تستمتع هي بالشكولاته المثلجة، وحلوى جوز الهند.
سنوات وسنوات مضت.. كبرت الطفلة الصغيرة، وكبر هو، لم تعد كفها صغيرة ضعيفة، ولم تعد كفه تلك الكف القوية التي كانت تحتضن كفها، اصطحبته إلى نفس المكان الذي كان يحب أن يحتسي فيه قهوته، وجلست معه على نفس الطاولة، تتعلق عيناه بها، مستسلماً لها، مستنداً عليها، متشبثاً بيديها، فتتساءل: أهذا العجوز الجالس أمامها هو نفسه الذي كان يوماً ما يحتضن كفها الصغيرة بقوة!
ورحل صاحب الكف القوية التي صارت ضعيفة هزيلة، تاركاً ابنته الطفلة التي كبرت، تحب البحر ورائحة القهوة، ومذاق جوز الهند، وذكريات كثيرة جميلة جمعتهما لسنوات وسنوات سويّاً، فلا تملك إلا الدعاء لهذا الأب الرائع.. فهل في زماننا الذي نعيشه الآن مثلُ هذا الأب؟ أم أننا في عصر الأب الحاضر الغائب؟!! هل هناك في هذا الزمن الأب الذي يحرص على أن يأخذ أبنائه في حضنه، يربت على أحزانهم، يشاركهم أحلامهم، يحبهم حباً غير مشروط، يحتوي أفراحهم، يلعب ويلهو وينصح ويحاور ويصادق ويتجاوز ليحصد كل هذا الحب والبر في كبره وشيخوخته.
الأب لا يمكن اختزاله في المال الذي ينفقه على أبنائه، لا يمكن اختزال الأب في رسالة عبر الموبايل أو مكالمة هاتفية، الأب أمن وأمان لا يشعر بهما إلا من افتقدهما بفقدانه لأب استطاع أن يجسد في حياة أبنائه مرفأ الأمان والأمن والطمأنينة وهي مشاعر لا ترتبط بالفقر والغنى... رحمك الله يا أبي وجزاك عنا كل الخير..
عبير الكلمات
*إلى عالَمٍ آخرَ غيرِ دُنيايَ رَحَلْتَ، فافْتقَدْتُ دِفْءَ أحضانِكَ، وسَكينةَ يَدَيَّ في راحَتَيْكَ.. أبي، رحمةُ اللهِ عليك! فبِرَحيلِكَ عنّي ضاعَ الأمانُ، وضلَّ الحنانُ طريقَه إلَيَّ. وعَزائي أنّه لم يَنقطِعْ دُعائي لك وشَوقي إليكَ!