حزينة انا هذا الصباح ، اجلس قرب النافذه ، اشاهد آليات ثقيلة تغتال امومة آخر مساحة خضراء في الحي الذي اسكنه .
هناك على الرصيف المقابل ثمة عمال يروحون ويغدون يعملون دون كلل في تهيئة الارض الخضراء لاستقبال بناء سكني ضخم سيتم تزيينه بالطبع بواجهات حجريه وشرفات انيقة ، مزوده بزجاج عازل ضد عوامل الطقس ، ومواقف للسيارات .
تلك المساحة الخضراء المتبقية الاثيرة الى نفسي ، ما زالت صورتها الاولى مطبوعة في ذهني منذ سنوات وانا اروح واغدو اشاهدها في مواسم الربيع وقد اكتست بحلة خضراء من الاعشاب النديه ، تسرح فيها قطعان الاغنام والخراف التي تأتي بصحبة الراعي ، تمرغ وجوهها فوق حشائشها ، تتغذى عليها ، لتمتلىء ضروع اناثها بالحليب الوفير ، وفي مواسم الصيف كنت ارى تلك الارض ( الام الرؤوم ) وهي تتباهى بحملها الجديد ،،، سنابل قمح بلون الذهب تتمايل مع نسمات الهواء لتحدث تموجات لها موسيقى عذبه لا تحتاج الى اذن كي تسمعها ، لانها تتخطاها وتتسلل مباشرة الى القلب.
وبعد مواسم الحصاد لا تبخل الارض على احد من زوارها ، لا ترفض اولاد الحي حين يأتون للعب فوقها بالكرة ، يتقاذقونها فرحين ، ولا ترفض أيضا من يأتي ناصبا خيمة زاهية الالوان ليقيم عرسا لفلذة كبده ويولم للاهل والاصدقاء والجيران .
اليوم ،، وبعد ان تآكلت كل السهول الخضراء من حولي ، وحلت محلها غابات من الاسمنت والحجارة ورحلت طيور الى مكان بعيد واختفت انواع من الفراشات ،ها هي تلك الارض ( الام) ملاذنا الاخير الذي كان يجمعنا ، تزحف اليها الآليات الثقيلة لتغتال امومتها المعطاءة ، يأتي المالك ليغرس ذلك الوتد الحديدي المشؤوم الذي كتب عليه ( شقق فخمه للبيع ) لتبدأ الآلية ذات الذراع الطويله بغرس مخالبها الشرسة داخل رحم الام ، تغرف ما استطاعت من احشائها الخصبه داخل مغرفتها الضخمه ثم تدور الذراع دورة كاملة الى حيث تقف الشاحنة لتفرغ في صندوقها حمولتها الخصبه ، تراب بلون حناء العروس ، ثم تعود الذراع لتعيد الكرة مرة تلو الاخرى وتستقر مخالبها مجددا في رحم الام لتنتزع مزيدا من التراب الاحمر لتستقر كومة بعد اخرى داخل صندوق الشاحنه ، ذلك التراب الذي طالما انبت لسنوات قمحا وزعترا وخضرة ، تتحرك الشاحنة الى مقصدها لتحل محلها اخرى فارغة ، ويذهب التراب الى المشاتل ليتم بيعه ثانية للمترفين ليفترش حدائقهم المنزلية .
بعد ساعات من العمل تهدأ الاليات وينزوي العمال في ركن لتناول وجبة الغداء ، تاركين الارض ترتعد فرائصها من البرد وتنادي بصوت مبحوح ، لعل احد من ابنائها يأتي لستر عورتها.
بعد شهور ، ستصل الام الى مرحلة سن اليأس بعد ان تستقر في رحمها اطنان من الاسمنت وترتفع فوق ظهرها ابنية شاهقه ، وسوف يعمد مالكها الى زراعة بعض من اشجار ونباتات الزينة على مداخلها ليستدعي اعجاب المشترين , وربما امر من امام البناء لاشاهد تلك الاشجار ونباتات الزينة تحدق ببلاهة في المارة مثل دمى منصوبة على واجهة محل لبيع الملابس ، لا دفء فيها ولا احساس.
اقلب في صوري القديمة ، واطيل النظر في احداها التي تضمني وعائلتي ونحن نمرح فوق تلك الارض الحنون ، نلعب بالريشه او نتقاذف الطبق الطائر وضحكاتنا تملأ الارجاء ، بعد اليوم سوف يتحتم على صبية الحي ان يلعبوا بالكرة في وسط الشارع ، وعلى ذلك المزارع ان يبحث مع ابنائه وبناته عن ارض اخرى في مكان بعيد ليزرعها ويقتات من خيرها ، وليذهب الراعي واغنامه الى الجحيم .
اصبحت الصورة التي في يدي الآن بمثابة الذاكرة الاصلية لتلك الارض قبل اغتيال امومتها ، ولترسخ مقولة احد المصورين المحترفين ( الحياة فقاعة ، فصورها قبل ان تنفجر)