احدى أهم المفارقات في التاريخ النسوي العربي ان رائد تحرير المرأة كان رجلا هو قاسم امين، وبذلك يكون الذكر قد ناب عن الانثى التي تقول الدكتورة نوال السعداوي انها الأصل، لكن ذلك لم يحُل دون ظهور نساء عربيات بدءا من مصر مارسن ادوارا في تحرير المرأة في مقدمتهن، هدى شعراوي، ومنهن ايضا من ذهبن بعيدا، كتلك السيدة التي طالبت بحذف نون النسوة من كتاب النحو في أربعينيات القرن الماضي، وكانت من حيث لا تدري جذر ظاهرة عرفت في ما بعد باسم «الفيمينست»، والمرأة العربية التي عانت منذ بواكير تاريخها من الوأد المزدوج تحمل في وعيها ولاوعيها على السواء، موروثا باهظا، لهذا حين تكتب احداهن عن السيرة الذاتية للمرأة كالكاتبة الدكتورة لطيفة لبصير، فإن العبء يصبح مضاعفا، خصوصا في مناخات ثقافة الهاجع فيها والمسكوت عنه قارة بسعة كوكب، فالرجل عندما يتعلق الأمر بكتابة السيرة الذاتية يخفي اكثر مما يعلن، لهذا علّق مستشرق على كتاب «الأيام» لطه حسين بأنه اخفى تفاصيل هي نخاع السيرة وليست لحمها وعظمها، ومنها مراهقته كضرير في قرية، وحين جازف كتّاب آخرون مثل محمد شكري ود. سهيل ادريس بكتابة سيرة محرّرة من التواطؤ مع الذاكرة، كانت ردود الأفعال عليهما تراوح بين الاستهجان والتأثيم، رغم ان ما قالاه يبقى محافظا اذا قورن بسِيَر ذاتية كالتي كتبها جان جاك روسو وماري بشكرتسيف وجان جينيه وهنري ميلرو حتى سانت اوغسطين.
٭ ٭ ٭ ٭
اطلقت الكاتبة د. لطيفة على كتابها عنوانا فرعيا هو الجنس المُلْتَبَس، والعنوان بحد ذاته يعاني من التباس ما، لأن هذا المصطلح استخدم مرارا في سياقات مُتباينة، وان كانت الكاتبة ارادت بالجنس الملتبس جنسا أدبيا هجينا بين السيرة والرواية، وتلك مسألة اخرى تبدأ الكاتبة من مثال لهذا الجنس الملتبس هو ما كتبته الراحلة لطيفة الزيات بعنوان «حملة تفتيش»، التي اعتبرها النقاد سيرة ذاتية لكنها نفت ذلك وقالت انها لم تكتب سيرة ذاتية بل اوراقا شخصية استخدمت فيها مادة ذاتية، وتستنتج المؤلفة من ذلك ان هناك بالفعل التباسا في الكتابة عن الذات، فالكاتبة تعلن انها تحكي عن حياتها، ولكنها تصوغها روائيا، وهنا نتذكر على الفور ما قاله همنغواي عن استثماره الروائي لسيرته الذاتية، فقد عبّر عن احترازه من هذا الاستثمار في العمل الأول، لأنه لو افرط في توظيف ذاكرته روائيا لما وجد بعد ذلك شيئا يقوله، وان كان احد نقاد همنغواي وهو فيليب يونغ، فقد تقصى السيرة في اعماله الروائية كلها ووجد انها مبثوثة في كل اعماله لكن بحذر وتقشّف.
٭ ٭ ٭ ٭
هناك موضوعة بالغة الاهمية تثيرها الدكتورة لطيفة لبصير هي مفهوم الخنثوية، سواء بالمعنى الفرويدي المتعلق بالخنوثة العضوية او بما اضافته سارة كوفمان والمتعلق بتقنية النسيج، التي تصوغها المرأة كي تخفي عُريَها الخاص، من هنا فإن كاتبة السيرة الذاتية تصوغ منذ الطفولة عالما ملتبسا يباعد بين الانوثة والذكورة، من خلال التربية، لهذا تسيطر حكايات الطفولة على السيرة الذاتية النسائية، ولأننا لسنا بصدد قراءة مكرسة لكتاب الدكتورة لطيفة، فذلك له مقام آخر، فإن ما يعنينا من الاطروحة بمجملها هو ما يتعلق بالانوثة والذاكرة وكذلك بالانوثة والتخيل، وهما ليسا طرفي نقيض، فالخيال في نهاية المطاف ذاكرة يعاد انتاجها بمران واستدراك، سواء تعلق الامر بالمرأة او الرجل، ولكي يكتب العربي سيرة ذاتية جديرة بهذا التصنيف الأدبي لا بد من توفر مناخات من الحرية، وكذلك ضمانات اخلاقية واجتماعية، فالواقع الذي نعيشه ونعانيه يتأسس على تربية زجرية وعلى المواربة والتخفي. ولو كتبت امرأة سيرة صريحة لتعرضت للرّجم، لأن ايديولوجيا الذكورة المزمنة منذ الوأد الأول حتى الوأد الذي ارتدى اقنعة مزخرفة في الألفية الثالثة، تتربص بكل بوح انثوي، لهذا غالبا ما تحترز حتى الروائيات من القراءة الملتبسة، فيقلن مثلا ان شخوص النص لا علاقة لها بالواقع، اما استخدام ضمير الغائب فهو حيلة افقدها التكرار صلاحيتها، وما كتبه ميشيل بوتور عن لعبة استخدام الضمائر يوضح ما اعنيه، وهناك كتّاب وكاتبات يفرطون في تهريب بعض الوقائع من السيرة، بحيث تبدو احيانا مبنية للمجهول او ان كاتبها هو نائب فاعل! وفي السيرة الذاتية تكون الرقابة مزدوجة، بل متعددة تبدأ من الذات ولا تنتهي عند ذوي القربى والمجتمع والسلطة التي تحكم انماط تفكيره وسلوكه معا، خصوصا في مجتمعات باترياركية يُحرم فيها الابن من حق البلوغ والرشد العقلي، فالبلوغ لا يزال سجينا كمفهوم في دلالاته الجنسوية، ومعظم ما نُشر حتى الان من سِيَر ذاتية كتبها رجال او نساء يبقى في نطاق السيرة الذهنية، فالجسد هو الثانوي والكومبارس، رغم دور البطولة السري، ومرد ذلك الى الاحتراز والخوف من العقاب في مجتمعات لم تصل بعد الى طور حضاري ومدني يتيح لها الاعتراف بحق الفرد في ان يقول ما لديه وليس ما ينبغي له ان يقول، فالقطعنة والامتثالية هي مضادات نموذجية لكتابة السيرة، لأن السيرة تُنسب الى ذات، وحين لا تكون هناك ذات تعي حدودها وتعلن عن استحقاقها للتفرد والاستقلال فان ما يكتب تحت عنوان السيرة هو تداعيات او مونولوج ذهني، يختلط فيه الواقعي بالمُتَخيّل والموضوعي بالرغائبي .
٭ ٭ ٭ ٭
أذكر ان حوارا دار ذات يوم بين الصديق الراحل جبرا ابراهيم جبرا وبيني حول السيرة الذاتية، وذلك بعد صدور سيرته قال لي، انه كان يكتب باليد اليمنى والممحاة باليد اليسرى، لهذا حذف معظم ما اراد ان يكتبه، وما سمعته منه خلال عدة اعوام من ذكريات مثيرة لم اجده في سيرته، وان كان جبرا قد هرّب شيئا من السيرة في روايتين على الأقل هما «صيادون في شارع ضيّق» و»البحث عن وليد مسعود»، لهذا غالبا ما تخطر ببالي عبارة الدكتور يوسف ادريس الموجعة التي تثير الشجون كلها وهي، ان الحرية المتاحة في الوطن العربي لا تكفي كاتبا واحدا، فكم هي الحرية اللازمة لكتابة سيرة ذاتية يجهر فيها الكاتب بحماقات المراهقة واسرار الطفولة وما جهد في اخفائه في الشيخوخة. وقد لا حظ ناقد عربي وفرة الانتاج الروائي النسوي في العقدين الاخيرين، وهذه ظاهرة يجب ان تُستقرأ ولا نكتفي بتوصيفها فقط، فالرواية غالبا ما تكون لدى البعض سيرة لما هو مرغوب في حدوثه وليس لما حدث. بهذا المعنى تكون مُتنفّسا بديلا، او عادة علنية فالكتابة ايضا لها « فيتشيا «خاصة بها والسيرة قد تكون نسيجا يخفي عُريْ الحقيقة وليس الانوثة فقط كما يقول فرويد.