بعيدا عن وعود برنامج الأمم المتحدة الإنمائي للألفية، وبعيدا عن تقارير التنمية الإنسانية العربية من أجل تمكين المرأة ومؤشّرات المشاركة السياسية، وبعيدا عن برامج "تدريب الديمقراطية" و"ورشات تكوين القيادات النسائية" وخطابات حقوق المرأة وتجاذبات المساواة والتكامل، ما هو الواقع الذي تعيشه المرأة التونسية؟ وما هي الخيارات الحقيقية التي يسمح بها هذا الواقع؟
أولا، المرأة التونسية، جزء من بنية اجتماعية ذكورية تأسّست أركانها على امتداد أكثر من قرنين، وهي تعيش تفاصيل التحوّلات التي يمرّ بها جميع أفراد عائلتها إناثا وذكورا ومن مختلف الشرائح العمرية على امتداد ستين سنة أو تزيد. وهي كذلك تواكب منذ أربع سنوات الحراك النضالي بتموّجاته المتغايرة وبتضاريسه الغير متجانسة.
ثانيا، المرأة التونسية، مكوّن من مكوّنات مجتمع شطره المستعمر الفرنسي نصفين، وعمّقت ازدواجية وعيه "دولة وطنية" مركزية ورثت هياكل دولة المستعمر. طوال أكثر من خمسة عقود والدولة تبتلع مواطنيها تحاصرهم وتحدّ من حركتهم، توجه خياراتهم وتصنّفهم اجتماعيا وتقسّمهم إلى فئات تتراتب جهويا وتتمايز تنمويا.
انشطرت تونس جغرافيا واقتصاديا إلى نصفين: نصف يمتد على الشريط الساحلي والعاصمة ليتحوّل إلى مركز سياسي وإداري واقتصادي وثقافي، ويستأثر ببنية تحتية متطورة وبمشاريع تنموية ذات قيمة مضافة مرتفعة. ونصف يمسح المناطق الداخلية من الشمال الغربي والوسط الشرقي والجنوب كان نصيبه من التنمية معمل الحلفاء، ومصانع الآجر والرخام ومصانع التلوّث البيئي ومقابر النفايات الكيماوية.
هذا الانشطار في الجغرافيا أنتج ازدواجية في الوعي وفي نمط العيش، توزّع المواطنون بين تونس "العصرية" وتونس "التقليدية"، بين مجتمع "ذكوري" محافظ وتقليدي يعيش على وقع قيم العائلة الموسعة والتضامن القبلي، وعلى تمثّلات جمعية توارثتها المجتمعات المغلقة وتحولت إلى معتقدات منحوتة داخل وعيها وباتت تحدّد ممارساتها وتحرّك أفعالها. ومجتمعات منفتحة على الآخر في الضفة المقابلة من البحر الأبيض المتوسّط، تعيش حياة عصرية من أهم مميزاتها تذرّر العائلة وتفكّك الروابط بين مختلف مؤسّسات المجتمع، هذا التفكّك والتذرّر أنتج تراجع سلطة "الذكر" وضعف دور العائلة في التنشئة الاجتماعية خاصة بخروج المرأة للعمل وتحقيق استقلالها المادي، كما صاحب نمط العيش هذا ظواهر اجتماعية جديدة في طريقة اللباس والأكل واستهلاك المنتوجات ذات الاستعمال الواحد، وتأخر سنّ الزواج والعنوسة والأمهات خارج إطار الزواج وارتفاع نسب الطلاق وتشكّل "الجمعيات النسوية" التي تدافع على حقوق النساء..الخ.
من جهة أخرى، وخلال العشريتين الأخيرتين شهدت العاصمة والمدن الكبرى ظهور أحزمة عميقة من الأحياء الشعبية العشوائية أخذت تتسع شيئا فشيئا كبقعة زيت في بركة ماء راكدة، لتتحوّل إلى أطراف ممتدّة تربط عمرانيا الحضري بالريفي، وتمزج اجتماعيا بين التقليدي والعصري. أغلب ساكنة هذه الأحزمة من النازحين الوافدين من نصف تونس المهمّش جغرافيا وتنمويا وسياسيا، هم جزء من سكّان تونس لم يتحوّلوا إداريا وسياسيا إلى مواطنين ولا تتذكّرهم "الدولة" إلاّ في مواسم الإحصاء وتعداد السكّان، عاشوا أكثر من نصف قرن على حلم "حياة الرفاه" التي يعيشها شركاؤهم في الوطن من أبناء المدن الكبرى والمناطق الساحلية. تركوا خلفهم فلاحة تجاهلتها مناويل التنمية، وأرياف حرمت من أبسط ضروريات الحياة الكريمة، وانتقلوا إلى المدن الكبرى حاملين معهم نمط عيشهم وتمثلاتهم وتصوّراتهم ليستقرّوا على الأطراف، آملين تحقيق بعض المشاهد من مسلسلات رمضانية صوّرت لهم حياة المدينة على أنها "جنّة وفيها بريكاجي".
لم يجدوا غير المزيد من التهميش والإقصاء، إذ لفضتهم المدينة فاستقرّوا على هامشها، مشكّلين مجتمعات متضامنة لها قوانينها وأعرافها، وانخرطوا ذكورا وإناثا في "فعل" مضاد لفعل "التهميش" فأسّسوا اقتصادا موازيا وأنماط عيش موازية وشبكات موازية لشبكات المجتمع المديني. أسّسوا مجتمعا هجينا يتأرجح بين الحضري والريفي بين "العصري" و"التقليدي" فأسّسوا أرضية خصبة لزرع بذور الانحراف والتطرّف والتهريب والترهيب وفي نفس الوقت شكّلوا "شعبا عميقا" مقاوما لـ"دولة عميقة"، وأسسوا عن غير وعي حركات شعبية عفوية موازية للحركات العمالية والطلابية المنظمة، وباتوا يمثّّلون رقما صعبا في معادلة لم تعد أطرافها مكشوفة.
هكذا هو واقع المجتمع التونسي في لحظة ثورة 17-14 ، نصف "عصري" أو "حداثي" (بالمفهوم الفرنسي) تمتّع بامتيازات الباي العثماني والمستعمر الفرنسي واستأثر باهتمام دولة الاستقلال في نسختيها البورقيبية والنوفمبرية، فارتبطت مصالحه بشكل مباشر بمنظومة الحكم وباستمرار مؤسّسات "الدولة الوطنية" التي تؤمّن له نمط عيش لم يعد بإمكانه التراجع عنه أو تغييره. ونصف "تقليدي" مهمّش لا موقع له في المشهد السياسي ولا الاقتصادي ولا الثقافي، لعب تاريخيا دور الفلاّق والمقاوم والمعارض، دفع الكثير من دم أبناءه مقابل حركة التحرّر الوطني ومعركة الجلاء وانتفاضة الخبز وكان عقابه الإقصاء و"الحقرة" في عهد بورقيبة وعدم الاعتراف والتهميش في عهد بن علي. هكذا هو الواقع التي تتحرّك فيه المرأة التونسية، تركيبة معقّدة ووعي مكوّناته متباينة ولا أحد يستطيع أن يجزم بأنه يستطيع بناء واقع مغاير دون عملية تفكيك للواقع الحالي.
ما نكتشفه اليوم، بعد أربع سنوات من زلزال 17-14 أنّ الحديث على "قضايا النساء" بمعزل عن قضايا المجتمع ككلّ واستحقاقات "الشعب العميق" على وجه الخصوص، هي تهويمات سياسية لأحزاب و"جمعيات نسوية" ادعت بأنها تمثّل المرأة التونسية وطموحاتها، وهي في الحقيقة ليست سوى حلقات في أجندات تبحث عن المبرر الأخلاقي لعولمة نمط عيش غريب عن مجتمعاتنا العربية-الإسلامية، وتستعمل ورقة "النسوية" لتكريس هيمنتها السياسية والاقتصادية، وللأسف انخرطت بعض "النساء" من أعضاء الجمعيات والمنظّمات المعنية بالشأن "النسوي" في نشاط مكثّف ومحموم خلال السنتين الفارطتين لم يسبق له مثيل بدعم من منظّمات وبرامج أممية من أجل الإعداد "لقيادات نسائية" يشاركن في توطين نمط من الممارسة الديمقراطية، وفي تنفيذ خطاب يمهّد لمرحلة من الليبرالية-الجديدة شعارها "الخوصصة هي الحلّ"، لتتحوّل المرأة إلى أداة تطبيع واقع اجتماعي يهيمن على مؤسّساته أصحاب المال والأعمال، وتتحوّل الجمعيات النسوية إلى واجهة تروّج إلى نمط عيش مُعولم يستأثر "الحداثيون" بوضع تأشيرة الشرعية على قيمه ومعاييره.
اليوم ونحن على مشارف انتخابات رئاسية، انكشفت معالم المعركة داخل مجتمع انشطر وعيه وازدوج نمط عيشه، شطر هيمن طوال العقود الماضية ويطمح من خلال اللعبة الديمقراطية المشوّهة إلى العودة إلى ما قبل 17-14 حيث الامتيازات والمصالح، ونصف مُهيمن عليه يطمح من خلال الصندوق إلى كشف الهيمنة وإسقاط الاستبداد وبناء الدولة الديمقراطية والمجتمع التعدّدي.
المعركة اليوم بين "شعب عميق" شبع تهميشا وإقصاءً، ومنظومة قديمة أركانها فاسدة وعناصرها-الفاعلة (التي وقع تجنيدها من جديد في المعركة الانتخابية) لا يمكن إلاّ أن تعمّق الهوة بين أبناء الوطن الواحد، وتعيد إنتاج منظومة مستبدّة وغير عادلة.
المنظومة المتعفّنة أو التي قال عنها الدكتور منصف المرزوقي، أحد المترشّحين للرئاسة، "هذا نظام لا يصلُح ولا يُصلح"، لا يمكن أن تقوم بتوسيع رقعة الحريات لأنّ فاعليها جبلوا على التسلّط والقهر والاستبداد، ولا يمكن أن تحقّق العدالة الاجتماعية لأنّ فلسفتها تقوم على المصلحة والفردانية وتحقيق الفائدة، ولا يمكن أن تعيد لشعب عميق كرامته لأنّ في كرامته زوال لمصالحها وإنهاء لاستئثارها بالسلطة السياسية والاقتصادية.
لذا لا يمكننا الحديث عن تغيير واقع المرأة التونسية، إلاّ بمشاركتها في الحراك النضالي الاجتماعي وانخراطها الفعلي في معركة الحرية والكرامة، من أجل أن تنتصر على قوى الردّة بجميع تمظهراتها، وتنتصر على جاذبية العودة إلى مربّعات الاستبداد والتهميش، فليس أمام "الشعب العميق" ذكورا وإناثا غير الانتصار أو الانتصار.