في الشارع... رجل عجوز يمسك عصا، ربط احد اطرافها بحزام وَسطِه والاخر شد عليه خيوط بالونات كثيرة ملونة بعد أن التفت الخيوط على بعضها البعض وتاهت رؤوس الخيوط فيها... بصوته الخافت هَرَما يصيح... بالونات للبيع ، بالون احلام وأسرار ...
كان الطريق اخرسا إلا من حفيف شجر يحمل الكثير من تلك الأسرار نُقِلت عن هواجس بشر، منها ما سقط ورقا ومنها ما دب صراخا من بقايا اوجاع، ومنها ما حمل عتاب قلب جريح، رفع ببصره نحو شرفات المنازل ثم صاح... ألا من يشتري بالون يُفَرِح به طفلا يحدوه الأمل، ألا من يشتري من عجوز يوم من دهر انحناء ظهر، أسقط من على كتفيه سنين تاه عدها حتى تقوس ضياعا بين دروب غير ممهدة وأزقة ضيقة، لكن لافائدة!! شعر بأن رجليه لا تقوى على حمله والسير، فاتخذ من جذع شجرة وظلها متكئا، ثم أخذ يعزل عصاه عن بطنه وعيناه على عدد البالونات التي خبى هواءها وتلك التي لا زالت طائرة .. فقال:
يا لحظي!! خبى هواءك مثلي تماما، ها أنا لا استطيع الاحتفاظ بأنفاسي لأكثر من ثوان، فسرعان ما أأخذ الشهيق حتى أزفره من كثرة تعب، أتراك تعبتي وانت ترين العالم من على منبرك العائم، ام تراك تصلين الى الله فلا يستجيب دعائك، لقد أحكمت اغلاق فمك عن الكلام لأني بت أعلم في نهاية مطاف حديثك تخرجين عفط لا يرغب به من لا ينصت لك، رغم يقيني بترهات ما يقولون... فالعالم والناس باتت لا تكترث للقيم والنواميس بل حتى أدب الحديث، لقد إغرقوا بضحالة المصالح الى أن تناسوا القيم الإنسانية وما الماضي الاسود ببعيد حتى اسود الجديد والقادم من المستقبل، فأي بشارة يحمل هؤلاء؟ إنا لاشك نتبخر بطريقة أو بأخرى من أجل ان يرتقي من لا يستحق، فالحياة عمدت الى ان يرثها العباد الغير صالحين في امل ان تصحو سباتا اتخذته من باطن نفق مظلم حينها ربما ..وأقول ربما سيكون هناك الصالح من البشر الذي اختار الله ليرث قمم من الرمم والقيح الذي سال حتى صارت بحرا من قاذورات لا يمكن لأي لون او نوع من البشر ان يتخذه وطنا...
عبث الهواء في اغصان تلك الشجرة، دب حفيف الورق يتباكي على ما سمع.. رفع رأسه وهمس إليها، لعلك مللت سماع مفردات عرجاء لا تغني ولا تسمن من جوع،
نعم صدقتِ... فهيهات هيهات ان نجد من يمسك بعصاه من الوسط، لا اخفيك إن فرائصي ترتعد حين ارى كل تلك الالوان والبالونات تخبو دون ان يكون لها يد في ما يجري حولها، فقط كونها تريد العيش مرفوعة الرأس، تضفي بألوانها وخفة رونقها البسمة والسرور...
لكن الإنسان الجديد خرق جميع القوانين ثم ساق يترصد البسمة والأمل تنكيلا بلجمها بقبول السواد بؤسا إلهيا مسلط دون ادراك او حتى بإدراك، فالعالم آيل للسقوط دون ان يشعر من عليها ..
فجأة !! طار من تلك المجموعة بالونا ابيض نحو شوكة في غصن الشجرة فدوى انفجاره بعدها تمزق الى اشلاء ...وَجِلَت الاوراق، سكن الهواء، فرد الرجل لا عليكم... لستم السبب، يبدو ان الحياة بالنسبة له قد انتهت، لم ترق له العبودية والسجن رغم علمي بأنه انتحر لأن البياض في وطني بات محرما كونه يمثل الأمل، وبما أن لا أمل لنا فعلينا ان نروج لبقية الألوان بعدم قناعة إنها يمكن ان تكون بديلة، فهي تخدع ناظرها لابد وتجذبه نحوها... فلا وضوح حين تتجمع الألوان المبهرجة، اما الأبيض فأننا نراه لامعا ساطعا يهدي من يضل الطريق أليس كذلك؟!!
قالت الأوراق: يا لك من بائع أمل ببالونات! أتراك تبحث عن اللاممكن في وقت بات الممكن حَدِث ولا حرج عنه..إن اللون الابيض قد اختفى من على أرضي وحتى السماء، لقد عشنا سنون سوداء في الأزل وظننا أننا قد لبسنا الحرية ثياب عز وعتق من السجون، بيد ان العالم الذي اتسعت مساحاته كوطن اخذت اسيجة السجن فيه تكبر وتصغر حسب ما تشتهي تلك الطوائف، حاملة الرؤوس مأفونة العقل، الى ان وصل بنا الحال الى هذا المرض الخبيث الذي دس في ليل، وحتى تشفى او يعالج المتبقي من الجسد لابد من البتر وجاء بصيغة فدرالية ... اما بالوناتك وما تريد ان تبيعه من خلال رمزها ومزجها بالفرح، أظنك لا تؤمن به!؟ لكن هو إسعاف متأخر الى جسد ميت، فالأمل يا سيدي الكهل قد هرب طائرا مع كل العصافير التي تزقزق مع النسمات الهواء الباردة في صباح شتاء بارد، مع كل قصة حب لا تروى...
هيا قم وأحمل ثقل همومك وهواجسك الى بالوناتك الملونة، وكف عن بيعها، فما عاد الإنسان فيهم يبحث عن الحياة، بل عن الموت سبيلا للخلاص في زمن النفاق المبرقع، وأوصيك ان تطلق كل بالوناتك بعيدا، علها ترحل من حيث جاءت، وأظن ان هناك في وطني رمق من بالونات بيضاء بلا أجنحة تحمل أمل ضعيف ربما، لكنه سيفي في الغرض الى حين تنجلي العتمة بالألوان المصطنعة.