من أسباب الرسوخ في العلم وطموح الهمم ،إلى التوسع في البحث وعدم الرضا بما دون الذروة بقراءة الكتب، التي تنسج على طريقة الاستدلال والغوص على أسرار المسائل، وهي طريقة المتقدمين من علمائنا.
وأما بسط النظر في علوم متعددة، فلارتباط العلوم بعضها ببعض، وكلما كان الاطلاع على العلوم أوسع، كان البحث في المسائل أجود، و الخطأ في تقريرها أقل، والاحتجاج عليها أسلم، فلا يجيد دراسة التفسير أو الحديث من لم يكن ضليعاً في العربية، ولا يحكم الاستدلال على العقائد ويدفع ما يحوم عليها من شبه إلا من كان عارفاً بالتفسير والحديث والقوانين المنطقية والمذاهب والآراء الفلسفية، ولا يقوم على دراسة الفقه أو أصوله من لم يملأ يده من الحديث والتفسير وعلوم العربية.
واطلاع الرجل على علوم كثيرة يعرف موضوع بحثها ويقف على جانب عظيم من مبادئها لا يمنعه من الإقبال على علم يجعل له من الدرس والمطالعة ما يرفعه إلى مرتبة أئمته الذين يكتبون فيه فيحققون، ويسألون عن أخفى مسائله فيجيبون والذي يضع يده في علوم شتى يمكنه أن يجاري طوائف العلماء في المباحث المختلفة، وعلى قدر ما يكون للرجل من خبرة بالعلوم، يبعد عن مواقع الذلة ويزداد في أعين الناس تجله.
عكف أبو صالح أيوب بن سليمان على كتاب العروض حتى حفظه فسأله بعضهم عن إقباله على هذا العلم بعد الكبر فقال: حضرت قوماً يتكلمون فيه فأخذني ذل في نفسي أن يكون باب من العلم لا أتكلم فيه…
تقضي الحياة الراقية أن يقوم بكل علم طائفة يكونون السند الذي يرجع إليه، وكذلك كان علماؤنا فيما سلف يقبل كل طائفة منهم على علم يقومون عليه دراية، ويقتلونه بحثاً، وبهذا اتسعت دائرة المعارف وظهرت المؤلفات الفائقة، وتراهم قد عرفوا من قبل أن نجاح قصر الطالب على الرسوخ في علم يرجع إلى ترك الطالب وما تميل إليه نفسه من العلوم، ومما نقرأ في ترجمة أبي عبد الله محمد الشريف التلمساني وكان راسخاً في المنقول والمعقول ـ أنه كان (يترك كل أحد من الطلبة وما يميل إليه من العلوم، ويرى أن كل ذلك من أبواب السعادة).
ومن لطف مُبدع الكون سبحانه ،أن جعل النفوس تختلف في استعدادها للعلوم والفنون والصنائع؛ لينتظم شأن الحياة وتتوافر وسائل السعادة، وربما نشأ أفراد في مهد واحد واختلف ميلهم إلى العلوم فبرز كل في العلم الذي وافق رغبته ووجه إليه همتَّه، كأبناء الأثير الثلاثة: علي الملقب بعز الدين إمام في التاريخ، ومحمد الملقب بمجد الدين في تحرير في الحديث والأدب، ونصر الله الملقب بضياء الدين بارع في الأدب وتحرير الرسائل، وكثير من علمائنا كانوا يدرسون علوماً مختلفة يبلغون في بعضها الذروة ويكتفون في بعضها بالمقدرة على تدريسها أو تحقيق مباحثها عند الحاجة فهذا أبو إسحاق ألشاطبي تقرأ له كتاب” الموافقات” فتحس أنك تتلقى الشريعة من إمام أحكم أصولها خبرة، وأُشرب مقاصدها دراية، ثم تقرأ شرحه على “الخلاصة” في النحو فتشعر بأنك بين يدي رجل هو من أغزر النحاة علماً وأوسعهم نظراً وأقواهم في الاستدلال حجَّة، والقاضي إسماعيل من فقهاء المالكية البالغين درجة الاجتهاد في الفقه قد سمت منزلته في العربية حتى تحاكم إليه عالمان من أعلامها في مسألة وهما المبرد وثعلب.
وكبير الهمَّة في العلم يريد أن يكون النفع بعلمه أشمل، ومما يدرك به هذا الغرض احترامه لآراء أهل العلم، ولا نعني باحترامها أخذها بالقبول و التسليم على أي حال، وإنما نريد نقدها بتثبت، وعرضها على قانون البحث، ثم الفصل فيها من غير تطاول عليها، ولا انحراف عن سبيل الأدب في تفنيدها، والفطر السليمة والنفوس الذاكية لا تجد من الإقبال على حديث من يسخفه الغرور مما عنده مثل ما تجد من الإقبال على حديث من أحسن الدرس أدبه وهذب الأدب منطقه.
وإذا كان الأستاذ كمدرسة يتخرج في مجالس درسه خلق كثير فحقيق عليه أن يكون المثال الذي يشهد فيه الطلاب كيف تناقش آراء العلماء مع صيانة اللسان من هُجر القول الذي هو أثر الإعجاب بالنفس، والإعجاب بالنفس أثر ضعف لم تتناوله التربية بتهذيب.
كبير الهمَّة يستبين خطأ في رأي عالم أو عبارة كاتب فيكتفي بعرض ما استبان من خطأ على طلاب العلم ليفقهوه، و يأبى له أدبه أن ينزل إلى سقط الكلام أو يخف إلى التبجّح بما عنده، وقد حدثنا التاريخ عن رجال كانوا أذكياء ولكنهم ابتلوا بشيء من هذا الخلق المكروه، فكان عوجاً في سيرهم ولطخاً في صحفهم، ولو تحاموه لكان ذكرهم أعلى، ومقامهم في النفوس أسمى، ومنزلتهم عند الله تعالى أرقى.
وخلاصة المقال: تذكير النبهاء من نشئنا بأن يقبلوا على العلم بهمم كبيرة،وصيانة الوقت من أن ينفق في غير فائدة، وعزم يبلى الجديدان وهو صارم صقيل، وحرص لا يشفي غليله إلا أن يغترف من موارد العلوم بأكواب طافحة، وغوص في البحث لا تحول بينه وبين نفائس العلوم وعورة المسلك ولا طول مسافة الطريق، وألسنة مهذبة لا تقع في لغو أو مهاترة.
ذلك عنوان كبر الهمَّة في العلم، وذلك ما يجعل أوطاننا منبت عبقرية فائقة ومطلع حياة علمية رائعة، وما نبتت العبقرية في وطن نباتاً حسناً، إلا كانت أرضه كرامة وسماؤه عزة وجوانبه حصانة ومنَعَة. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.