فاجأت ثورة 17-14 أغلب النخب السياسية، لأنّ الأوضاع في البلاد كانت لا تنبئ بانفجار قريب رغم سياسة التخويف والتجويع التي مارسها نظام بن علي بإصرار عجيب ضدّ الشعب العميق. كانت النخب السياسية والثقافية لا ترى ممّا تتوهّم أنه غابة سوى شجرة تتمعّش من ثمارها. بعد انتفاضة الحوض المنجمي سنة 2008 والتي ذهب ضحيتها عدد من أبناء الشعب المقهور، انتظرت لحظة 17-14 القطرة التي أفاضت الكأس، وكانت تلك القطرة إقدام الشاب محمد البوعزيزي على إضرام النار في جسده النحيف لينتشر بخور الثورة في جميع أنحاء البلاد مخترقا زيف الخطاب وسقوط الممارسة. إلى حدود ليلة 13 جانفي 2011 لم تؤمن النخب برمّتها بأنّ ثورة على الأبواب وأنّ الشعب الذي انتفض وخرج بالآلاف في بو زيان والقصرين وصفاقس أصبح يريد إسقاط النظام.
رحل بن علي يوم 14 جانفي 2011، تاركا خلفه نظاما لا أحد كان يتوقّع درجة تعفّنه وتكلّسه. كان الحزب الحاكم (التجمّع) مهيمنا على جميع مؤسّسات الدولة، وكان الفساد معشّشا في جميع مفاصل هذه المؤسّسات. استفحلت الرشوة والاختلاس في مؤسّسات الصحة والتعليم العموميين، واستأثر أصحاب المهن الحرة من محامين وأطباء وخبراء بامتيازات جبائية ومهنية، وتحوّلت المنظّمة العمّالية إلى وكر للفاسدين والمناشدين والمتلاعبين بمصالح الطبقة الكادحة.
استيقظ الناس على خبر هروب بن علي، ليكتشفوا بعد ذلك هول الفاجعة التي تركها خلفه، سقطت الشجرة وانكشف المستور لم تكن خلف الشجرة غابة وإنما كان الخراب، سقطت أوهام الدولة الوطنية الحديثة التي تغنّى بها بورقيبة وردّدتها النخب طوال أكثر من نصف قرن. لم يصدّق الناس مشاهد الفقر والجهل والتهميش، ولم يصدّقوا مشاهد الفساد والثراء الفاحش والقصور الفخمة المزركشة بثروات تونس وتاريخها، كانت المشاهد صادمة إلى حدّ الذهول.
بات الشعب يريد وأمسى لا يدري ما يريد، هرب بن علي وأصهاره وبقيت أركان نظامه، رحل رمز الفساد وبقيت الأيادي المخفية التي تديره وتحرّكه، لم يكن بن علي سوى غطاء لمنظومة فاسدة ومتعفّنة فاعلوها متعدّدون، تتغاير مصالحهم وتتباين أدوارهم لكنّهم يتشاركون في الهيمنة على مؤسّسات المجتمع، بعضهم يهيمن على مجال المال والأعمال وبعضهم الآخر يهيمن على مجال الإعلام والثقافة.
رحل بن علي فتناثرت الأقنعة وتعرّت الوجوه، وانتشرت على شبكات العالم الافتراضي -التي يديرها شباب الثورة- روائح كريهة ومشاهد مقرفة لشخوص كنّا نظنّهم من المصلحين. كلّما فتح الشباب ملفّا إلاّ وكانت الفاجعة أكبر، رؤوس كثيرة متورّطة في الفساد المالي والأخلاقي، قائمات المناشدين وأكلة السحت والبوليس السياسي كانت تفوق التوقّعات.
توقّفت لحظات الثورة عن التدفّق، ليجد الشعب العميق نفسه أمام عدوّ برؤوس متعدّدة، اكتشف شباب الثورة أنّهم في لحظة 17-14 قطعوا الذيل متوهّمين أنّهم قطعوا الرأس. تحرّكت الرؤوس في جميع الاتجاهات فتشتّت انتباه الثوّار ولم يكن أمامهم سوى التراجع إلى الخلف فضمرت قواهم وضعف أداؤهم.
وجدت رؤوس النظام المتعفّن المجال أمامها مفتوحا لتصنع جسما يحملها وذيلا ينشّ عن مصالحها، بعد أن وقع حلّ التجمّع بقرار قضائي فرضته استحقاقات الثورة، أعاد المضادّين لمسار الثورة بعثه بقرار سياسي فكان "النداء" الجسم الذي يحمل رؤوسا متعدّدة لنظام بائد، وكان رئيسه الذيل الذي يهشّون به عن غنمهم ولهم فيه مآرب أخرى.
ضمور قوى الثورة، وسوء أداء الترويكا بسبب الضعف والارتعاش والتشويش، وتشتّت العائلة الديمقراطية الاجتماعية، أتاح الفرصة أما رؤوس الفساد للإمساك بدواليب المشهد السياسي. أعاد التجمعيون بمساعدة قوى اليسار المعادي للترويكا (للنهضة على وجه الخصوص) ترتيب بيتهم الجديد، وقاموا بإعادة توزيع الأدوار واستعادوا ثقة رعاتهم ومموّليهم وأعادوا تأطير أتباعهم ورسكلة ميليشياتهم، وخاضوا معركة الانتخابات التشريعية 26 أكتوبر 2014 مجمّعين تحت مظلّة واحدة قوى غير متجانسة إيديولوجيا ولا فكريا ولا تاريخيا.
استفاق الناس يوم 27 أكتوبر 2014 على الفاجعة، النظام القديم عاد برموزه وفاعليه، 83 نائبا في البرلمان من بينهم أكثر من 43 تجمّعي عُرِف بالفساد المالي والسياسي والأخلاقي، عاد النظام القديم عن طريق اللّعبة الديمقراطية المشوّهة، الشعب الذي ذات يوم 14 جانفي أراد جعلوه لا يدري ما يريد فأعاد النظام القديم.
اليوم ونحن نخوض معركة الانتخابات الرئاسية يلاحظ الجميع هبّة شعبية غير مسبوقة، تناصر مرشّح الثوّار ومضادد قوى النظام البائد، الرئيس الحالي السيد منصف المرزوقي الذي تحوّل إلى زعيم وطني يمثّل المهمّشين والمحرومين من الشباب والمقهورين..
الرئيس محمد منصف المرزوقي، هو كما قال عنه عزمي بشارة "كان الرجل قبل الثورة متفائلا لا علاج له، لقد كان تفاؤله صعب المراس حتى بالنسبة إلى الاستبداد العربي الذي تدرّب على ترويض جموح المتفائلين. واستعصى على أمهر أجهزة البطش الأمنية والإعلامية المتخصّصة في معالجة الأمل كأنه مرض". هو اليوم يخوض معركته الانتخابية ممارسا قيمه مقدّما مثالا فذّا عن شخص اهتدى بهدي مبادئ الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية في الممارسة النضالية المديدة ضدّ الاستبداد.