لم تستطع أم فارس إخفاء اثار الخمس الاصابع عن وجهها يوم الجمعة الماضية، ودائما تصبح على ألسنة الجيران وموضوع جدل في الحي، بعضهم يلومونها على صمتها، وبعضهم الآخر يلقي اللّوم عليها أيضاً، لكنها تحني رأسها بصمت وتقول: "أجبر على ممارسة الدعارة... إلى من الجأ؟".
تعود "أبعاد"، بعدما دعت الرجال الى المعالجة النفسية، بحملة جديدة للدفاع عن النساءوحمايتهن من العنف. فكلمة "الله يساعدها... ما بتساعدها" انما تبقيها اسيرة العنف واسيرة زوج لا يتغاضى عن توجيه الاهانات لها والصراخ عليها ويعرّضها لأنواع عدة من العنف والتعذيب، تكشف عنها متحدثات معنفات في هذا التحقيق.
كسر جدار الصمت
ساميا تتعرض للخيانة الزوجية، فعندما يبدأ العراك، تهرع الى قفل الشبابيك والابواب وحجز اولادها في غرفهم. تقول ابنتها البالغة من العمر خمس سنوات "اتمنى لو لم اولد حتى أراهما يتعاركان، مرات عدة أحاول تهدئتهما لكن لا احد يسمعني"، وعبّرت بحزن "اخجل عندما يبدأ رفاقي في المدرسة يسخرون مني افضل البقاء في البيت".
ماركوس، ابن الثماني السنوات، شارف والداه على الانفصال، ينبر بقوة "بدي فلّ من هون". أما مربيته فتقول "يعيش حالاً دائمة من العصبية، ويضرب اخته باستمرار، ويتجه دائما نحو السلوك المعاكس عن قصد، بالاضافة الى انه يعيش شخصيتين مختلفتين ما بين البراءة والعنف. والدته ترفض التبليغ عن زوجها كي لا تخسر اولادها"، اما الجيران، فعندما يرون المنافض وفناجين القهوة تتطاير من الشرفة فذلك يعني ان العراك بدأ، فتصيبهم حال من الذهول، لأن الزوج، بعد ذلك، يلجأ الى اغتصابها.
لكن عندما لا تستطيع المرأة اخفاء آثار الضرب وسبب انزوائها، تدفع بعض الجيران المسؤولية نحوها لينصحوها إما بترك البيت او التوجه الى مراكز متخصصة والتبليغ عنه.
السيدة (أ.م) في منطقة بعبدا لم تستطع جارتها ان تتكتم على سرها او تصمت على العنف الذي تتعرض له من زوجها، فأرسلت لنا تشرح وضع جارتها وعنوان سكنها. توجهنا اليها وطلبنا التحدث معها، لكنها رفضت ونكرت الموضوع. بعد مدّة قصيرة عاودنا الاتصال بها، فوصفت لنا وضعها المأسوي وتحدثت عن جرحها: "ابني في الخارج، زوجي عصبي، اتعرض للضرب مرة في الاسبوع". وكأنها على موعد دائم مع الضرب، لكن دمعتها التي عجزت عن كتمانها اثناء تحدثها عن زوجها وصفت مدى حبها له ولعائلتها. تقول بصوت منخفض ومجروح "ارفض ان ابلّغ عنه كي لا اخسره، ربما يطردني من المنزل او يؤذيني اكثر، لا اعلم الى من ألجأ ومن يحميني منه؟".
لماذا يعنفها الرجل؟
تقول الدكتورة في علم الاجتماع التربوي مي مارون "عبر السنين والحضارات اعتاد الرجل على فكرة ان المرأة من مقتنياته وملكه كما يملك البيت والسيارة وغيرهما، وليست كائناً حراً بذاته". واضافة الى انه "يعتبرها مخلوقاً ضعيفاً وقدراتها الفكرية والجسدية أقل منه، فهو يعنّفها ويستطيع ان يؤدبها". واشارت الى "أن المرأة تسمح له بتعنيفها عندما تكون معتمدة عليه وهو من ينفق عليها فترضخ للامر الواقع كي تربي اولادها. فعندما تشعر بأنها قادرة على إعالة نفسها وتملك حريتها، وتستطيع ان تتخذ قراراً بأنها كائن قائم بذاته ولها كرامتها، عندها تستطيع ان ترفض السماح له بضربها".
كلمة "الله يساعدها... ما بتساعدها"
قد يتساءل البعض ما الذي دفع بمؤسسة "أبعاد" اليوم، في ظلّ هذه الظروف حيث ينشغل الرأي العام بالوضع الامني والانفجارات وأخبار الضحايا وانقطاع الطرق، باطلاق هذه الحملة. لكن هذه المسائل ايضاً ضرورية معالجتها. فكل أمّ فقيد او شهيد ذهب ضحية انفجار اواعتداء او قتل هو ايضا تعذيب، اذ ان اي عنف تتعرض له الأمهات من حرقة قلب وغصة تترك في عينيها دمعة، او امراة علقت واطفالها في النفق العائم وخرجت منه سباحة، فهنا "الله وحده يساعدها".
تقول غيدا عيناني مديرة ومؤسسة جمعية "أبعاد" عن حملتها أنها من ضمن الـ16 يوماً الدولية لمناهضة العنف ضد النساء والفتيات، والتي تمتد ما بين 25 من شهر تشرين الثاني اليوم العالمي لمناهضة العنف ضد المرأة، و10 كانون الاول اليوم العالمي لحقوق الانسان، "فنجدد الالتزام في هذه القضية". واكدت "ضرورة توفير الحماية للنساء من كل اشكال العنف الجسدي او المعنوي او الكلامي او الاقتصادي والجنسي مهما اختلفت جنسيتها او انتماؤها المذهبي او السياسي او الطائفي". ولفتت الى "غياب دور الاجهزة التشريعية من اجل تطوير السياسات الاجتماعية، من مجلس نواب ومجلس وزراء واجهزة الدولة". ودعت عيناني "كل افراد المجتمع الى تعزيز المبادرات الفردية والسلوك الفردي في تبني القضية قدر المستطاع ومحاربة العنف ضمن النطاق الذي نعيش فيه وعلى الصعد كلها، من اجل ان تصبح هذه القضية تعني المجتمع بكامله وليس المرأة وحدها".
ما بين البوح والكتمان
تبقى الجدران وحدها شاهدة على ضربة كف او جلد تحجبهما عن عيون الجيران، بينما تعجز مرات عدة عن كتمانها عندما يعلو الصراخ. وهنا يصبح كل شيء مكشوفاً وعلى الالسنة "الله يساعدها.."، "يا حرام معترا..."، "حرام ولادا.."، "مسكينة... بعد في هيك" هي عبارات يرددها المجتمع مستثنياً ذاته من الجرم نفسه. لكن "أبعاد" تدعو الجميع الى تبني هذه القضية لتصبح ايضاً قضيتهم. فمن يتكتم عن جرم يصبح مشاركاً فيه، ويجهل البعض خطورة هذا العنف، وغالباً ما يذهب ضحيته الاولاد والامهات معاً، اذ تقبل المرأة التحمل من اجل المحافظة على عائلتها وسمعتها. وهنا عبرت الدكتورة مارون في هذه الحال ان "المرأة تشعر بانها مجروحة ومرعوبة وضعيفة ومطعونة في كرامتها وتعاني اضطراباً، لأن الرجل اقوى منها عضلياً، يرافقه رعب نفسي. اما الاولاد فيبحثون عن التوازن لأنهم يحبون الطرفين، بعضهم يصيبه اضطراب عاطفي لانهم لا يحبون المشكلات في المنزل فيؤثر ذلك على حياتهم المستقبلية وعلاقاتهم وعاطفتهم وشخصيتهم خصوصاً". وشددت على ان "تكون المرأة على قناعة بأنه لا يجوز ضربها وزوجها لم يشترِها ليضربها والضرب اهانة وان تقتنع انها في حال بلّغت عنه ستكون الرابحة لأنه سيعلم ان هناك رادعاً له".
3 مراكز
اما "أبعاد" فتوفر إيواءً آمناً في 3 مراكز تابعة لـ"دار ابعاد" على الاراضي اللبنانية، وهي موقتة للنساء المعنفات. تقول عيناني "هذا المركز يستوعب 25 امرأة مع اطفالهن يمكثن فيه الى حين تتمكنّ من اعادة بناء مشروع حياة خالٍ من العنف، بالاضافة الى توافر مجموعة من الخدمات التأهيلية الاجتماعية النفسية وبرامج دعم النفس الاجتماعي، وتشبيك مع مؤسسات توفر الدعم الاقتصادي اللازم واستشارات قانونية. وكشفت عن "عشرات المتصلات وازدياد نسبة الابلاغات عن اعمال العنف ورفضه مع اطلاق الحملة"، ولفتت الى ان "بعضهن يتم اكراههن على الزواج او على الدعارة الى جانب العنف الزوجي والاغتصاب، وبعضهن مهددات بجرائم الشرف وهاربات من محاولات قتل".
لم يعد يحق لاي امرأة السؤال "إلى من الجأ؟" ثمة من يمكنه المساعدة في حال اتخذت هي القرار بالتبليغ وتغيير واقعها. الخدمة متوافرة ومجانية لها وللمجتمع، بالاضافة الى مؤسسات عدة حاضرة للاستشارات القانونية. ما عليها الا أن تثور وترفض الخوف وهذا المصير، كي لا يفاقم وضعها أكثر.