اتصلت بي مذيعة سورية شابة، ذات صوت رقيق، يحتوي على بحة شبيهة ببحة صوت نجاح سلام، وقالت لي إنها تعدّ برنامجاً عن المرأة لإذاعة سورية تبث من مدينة غازي عنتاب التركية، ورجتني أن أجيبها عن السؤال:
- كيف ترى وضع المرأة في ظل الثورات العربية بشكل عام، وفي ظل الثورة السورية خصوصاً؟
وطلبت مني أن أختصر إجابتي في دقيقة ونصف!
قلت لها: الوضع يُبْكي. ولعل مدة الدقيقة ونصف الدقيقة لا تكفيني لأفرغ رأسي من البكاء.
قالت: أإلى هذه الدرجة؟ لماذا؟
قلت لها: لأننا، نحن الناشطين المدنيين الذين ثرنا على النظام الأسدي في مطلع سنة 2011، كنا قد وضعنا في حسباننا أن نأخذ بيد المرأة السورية لترتقي، وتصبح نداً وصنواً لنساء العالم أجمع، وكانت النساء السوريات معنا، في الثورة، جنباً إلى جنب، لأنهن يمتلكن الطموح نفسه. ولكنْ، استولى الشبانُ المسلحون على ثورتنا، بقوة السلاح، وأعلنوا أنها ليست ثورة وطنية، ولا مدنية، ولا ديمقراطية بل هي جهاد من أجل إقامة دولة خلافة إسلامية ومبايعة شخص بغدادي، وآخر جولاني، وثالث تونسي، ورابع شيشاني... وهؤلاء القوم وضعوا نُصْبَ أعينهم هدفاً رئيساً هو قمع المرأة، وتجريدها مما اكتسبت من حقوق وحريات خلال السنوات السبعين الماضيات، ودفنها في الرمس، حتى ولو كانت على قيد الحياة!
أرادت المذيعة الشابة أن تقاطعني، وتقول شيئاً ما، لكنني صادرتُ حقها في الكلام، وتابعتُ مندفعاً:
- في المناطق التي استولى عليها هؤلاء المسلحون المحترمون، تركوا القتال ضد النظام، وتخلوا عن الجهاد، وعن رباط الخيل، وانطلقوا إلى مدارس البنات الصغيرات، وبدلاً من أن يوزعوا عليهن السكاكر وربطات الضفائر (يا أم الضفاير حلوة والجبين العالي)، وزعوا عليهن الجلابيب السوداء، وأمروهن بارتدائها! وهرع قسم كبير منهم إلى رجال القرى والمدن والبلدات، ليكسبوا الثواب بوعظهم وهدايتهم إلى الطريق القويم الذي يبدأ بتحصين نسائهم ومحارمهم، وهذا لا يكون إلا بإجبارهنَّ على ترك العمل، إذا كن عاملات، والتزام بيوتهنَّ، وتفانيهن في خدمة أزواجهن، وطاعتهن على الخير والشر، على الخطأ والصواب، إضافة إلى تنفيذ الأعمال التي لا يتنازل الرجل إلى مستواها كـ"تحفيض" الأولاد و"تشطيفهم" وإعداد الطعام للأسرة. باختصار: كفاهن هؤلاء الوعاظُ الجددُ شرَّ الانتماء إلى بشر القرن الحادي والعشرين.
في 1949، أي بعد ثلاث سنوات من استقلال سورية ونهاية الانتداب الفرنسي عليها، استولى العقيد حسني الزعيم على مقاليد الحكم في سورية، في انقلاب عسكري، وكان غريب الأطوار، يَظهر في الصحف دائماً وهو يحمل العصا الماريشالية، ويدلي بتصريحات غريبة، حتى أصبح موضوعاً للتندر في بيوت السوريين وغير السوريين. فاجأ هذا الرجل العجيب الناس بقرارين، كلٌّ منهما يساوي ثورة بأكملها! الأول أنه أعطى المرأة السورية الحق في الانتخاب من دون مقدمات، ومن دون قيد أو شرط! والثاني أنه وضع قانون الأحوال الشخصية السوري! ولو لم يعاجله العقيد سامي الحناوي بانقلاب آخر، بعد أقل من ثلاثة أشهر، لكان، ربما، وضع قوانين تضمن حقوق الإنسان والحيوان والنبات!
ولكن، وعلى ما يبدو، فإن عصر المعجزات الكبرى الذي افتتحه الجنرال حسني الزعيم تم تجميده بضعة عقود، حتى عاد في أوائل القرن الحادي والعشرين مع ظهور تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام "داعش" الذي لم يعط للمرأة حقها وحسب، بل أعطاها أكثر من حقها بكثير، ولا سيما عندما أطلق يد المجاهدين القادمين من خلف الحدود على المرأة السورية، فنزلوا بالفتيات الصغيرات في سن البلوغ زواجاً، وبسيدات المجتمع رجماً حتى الموت.
قالت المذيعة الشابة: بجد، هذا وضع مخيف. يبدو أننا أصبحنا بحاجة إلى ثورة أخرى.
قلت: بل هي، ثورتنا، مستمرة.