العلاقات الإنسانية لم تعد بذلك القدر من العفوية والبساطة، بل إنها باتت اليوم أكثر تعقيد، ولعل حياتنا المعاصرة وما غمرها من ماديات وسعي متواصل لتوفير القوت، والتفكير الدائم في بلوغ مرحلة الرفاهية، والتي يعتقد البعض أنها هي السعادة الحقيقية، جعلت الكثير من المثل والقيم الجميلة تغيب، ولا أقول تنعدم. طبيعة الحياة المعاصرة مسئولة عن مثل هذا الخلل في الأولويات، وهي أيضا مسئولة عن غياب الحب وتفكك حتى أقوى حصونه وأكثرها دف وعذوبة وهو حضن الوالدين خاصة الأم. فكم لفحتنا قصص عن ترك أطفال رضع على قارعة الطرق، وكم سمعنا عن قصص تعذيب أطفال على يدي أب أو أم غاب عن قلبيهما الحب والرحمة. بل كم سمعنا عن طفل أو طفلة قضى نحبه على يد أبيه أو أمة، فباتت مثل هذه الأخبار روتينية في حياة ملئها الصخب والضجيج والميكنة، واختفت المشاعر ووهنت الأحاسيس. بل الموضوع أكبر من أفراد لا يتمتعون بهذا الحس الإنساني، بل أنه أوسع من مجتمع مشغول بالبناء والتعمير ونسي الروح وبناء النفس والعقل، لتصبح ظاهرة حضارية تشمل جميع البلدان، يقول والتر ب. رويتر:" إن مشكلة أمريكا هي أن تترجم التقدم التكنولوجي الكبير إلى تقدم إنساني، وهي مشكلة من مشكلات العلاقات الإنسانية وخير البشر". وهذا صحيح حيث يوجد اضمحلال إذا لم يكن غياب للعلاقات الإنسانية في عدة مختلف البيئات الإنسانية، في بيئة العمل على سبيل المثال يحدث ضمور واضح للتفاعل بين الأفراد، وإن كانت هذه معضلة موجودة في كافة مفاصل حياتنا وليس في قطاع العمال وحسب، حيث نشاهد غياب للتعاون أو لمحاولة تحقيق أهداف مشتركة، وباتت هناك ذاتية وأنانية قاتلة، تغلف بقسوة في التعبير بل وفي المظهر، حيث ترتسم على الوجه بشكل دائم علامات السخط والغضب. المشكلة الحقيقية أن الإنسان مهما علا ومهما كبر لا يستطيع الاستغناء عن الآخرين، وبالتالي فإن الرفقة والصحبة تعد من البديهيات ويعرف على نطاق علمي واسع بأن الإنسان الغير مندمج مع محيطة ومجتمعه يعاني من أمراض نفسية خطيرة، قد تقوده نحو الانهيار التام وقد يتسبب في مراحل متأخرة في الأقدام على الانتحار. الإنسان كائن اجتماعي بامتياز، كما هو معروف ولنجاحه وتفوقه وتميزه في مجتمعه لابد أن يكون أسس علاقات سليمة وقوية، يمكنه من التعويل عليها.
لا أقول أن على الفرد منا أن يوزع وقته الثمين بين الأصدقاء فينسى مهام عديدة وكثيرة مثل تطوير النفس والاطلاع والقراءة وتنمية الثقافة الذاتية، بل أقول إن الإنسان العصري الذكي هو الذي يقوم ببناء توازن مثمر ومتميز بين كافة الاحتياجات الحياتية، بناء لا يؤثر على علاقاته الإنسانية، بل يدعمها ويقويها. هذا على المستوى الشخصي الذاتي لكل منا، لكن هناك مسؤولية كبري في هذا السياق ولها درجة بالغة من الأهمية تقع على المصلحين وعلماء العلوم الاجتماعية، بأن يعملوا على إصلاح هذا الخلل البالغ في علاقات الناس ببعض، وأن يحاولوا إيجاد مساحة للحب حتى وإن لم تكن شاسعة.