"لا تبحثي كثيراً... فأنا هنا"... على رصيف الشارع الكبير كان واقفاً منتظراً قدومها... نظرت... فتبعثرت... فتلعثمت... لكنّها... قبّلته بشوق الدنيا كلّها... وتمشّيا تحت رذاذ المطر... "هل تحبّين المطر؟"... قالت "أحبّ أن أتمشّى تحت زخّاته"... لكنّها في خاطرها همست "أحبّ أن أتمشّى معك والمطر المجنون يبلّلنا فتلثمني تحت معطفك الأبيض"... كانت بجانبه طفلة صغيرة... فيها من المرح والفرح... ما يغزل إزارا يغطّي الكون... لهفة اللقاء كانت بداخلها... ترتعش كريشة في مهبّ الريح... أليس الطقس شتاءاً... لا بل هي لفحات اللقاء الأول... بعد اِغتراب... وطول اِنتظار...
منذ أيّام... والحال متعبة... متوتّرة... فلا أمل في هذه الزيارة... الأمر صعب جدّا... وبات الأمل على حافّة الاِنهيار... وما تبقّى سوى... "حتّى لو لم تستطع المجيء فأنا أحبّك... ويكفيني أنّنا معاً على سطح هذه الكرة الترابية"...هل جُنّ جنون الجغرافيا... حين قرّرت فتح الحدود... كسرها... تكويمها في ركن بعيد عنهما... هل تمرّد المعبر... ليفسح المجال للهتاف... نعم... أنا هنا... هل سكت الليل الغاضب... لتشتعل شموع العاشقيْن... على أرض الوطن... وطن الرّوح... حيث لا أعداء... ولا اِنهزام... ولا حواجز... بين الجفن والآخر... فهو هنا الآن... بينها وبينه ربع ترنيمة... أو ربّما أقلّ... وهو هنا كاملاً... بلا فرضيّات ولا اِفتراضات... جسدٌ وروح... بجانبها...
جلسا في مقهى الرّصيف... وكان الحديث لا عابراً... ولا ساحراً... فهو حديث السّاعة... نقاش عن الوطن المجروح... وثورة جيل تعِبٍ... لكنّ القهوة كانت تدفّئ حوارهما... على وقع اِستراق لنظرات هائمة... فإذا وقعت عينيها على عينيه... اِحمرّت وردات خدّها... ولمعت اللّوزيّتان... فطأطأت رأسها في استحياء... واِرتبكت... أشعلا السيجارة الأولى... فتلامست الأنامل البيضاء... والتقت الأصابع... على رقصة ولاّعة...... وإذا بلسعة في الجسد المتجمّد برداً... كأنّما تعويذة سحريّة لامستها... لم تدْرِ ما تقوله... لكنّها ابتسمت لشوق الحب... على ضفاف رائحته العطرة... واِقتربت منه... والحوار ما يزال عن السياسة وهمّها... قطعت حبل أفكاره متلعثمة... "اِشتقت إليك"... وكانت البسمة العاشقة على شفتيه وردة تفوح بعبق شوقه... ولمعت عيناه... محاولاً سرقة لمسة من يدها الصغيرة... أمسك بِإصبعها فاِرتجفت... وأحسّت بنبضات قلبها تصرخ... "كم أحبّك"... فقال "أحبّكِ".... فكأنّه سمع الفؤاد يهمس باسمه... ويرقص فرحاً بوجوده هنا... على قارعة الطريق المجنون بصخب السيّارات... والمارّة... والوجوه المنتشرة هنا وهناك... وتأرجحا بين ثورة الشعب... وثورتهما على هذه الحياة... فصارت الحكاية... بلون الزيتون الذي قطفه... وتمر بلادها... وبرائحة عناق خيالي... في الطريق العام... بالعادة هي مشاكسة... لكنّ تلك اللحظة أنستها تمرّدها ومشاكساتها... فصارت أنثى... في مدينة رجل...
كانت تنظر إلى الساعة كثيراً... لا لأنّها مستعجلة... بل لأنّها كانت تحاول إيقاف الزمن... وتكوين البقاء الأبديّ على هضاب روحه... لكنّ الوقت مرّ بسرعة... لملمت بعضها... متأفّفة... فهي لا تريد لهذا القهوة ان تبرد... ولا للفنجان أن يفرغ... تمنّت لو اِلتصقت بالكرسي... لساعات وساعات... فلا يفتّت الجلسة شيءٌ... ولا يعكّر صفو اِرتشافات العشق شيءٌ... وقفا نحو زمن الافتراق متّجهيْن... تمشّيا والحديث ما يزال ذو شجون... حتّى وصلت لسيّارتها... كانت الدنيا ليلاً... لكنّ الشوارع كانت تعجّ بأهل المكان... رمقها بنظرة حبّ مدوّية... سمعها الشجر المستوي على الرصيف... فعادت إليها الرجفة التائهة... قبّلها وتمنّى لو كانت القبلات أكثر... على وجنتي طفلته... صافحها... فتمنّت لو تعيش بين كفّيْهِ... ثمّ رحل كلٌّ منهما نحو اِتّجاهه... في اِنتظار لقاء الغد...