لا شك أن ما نالته المرأة السعودية من استحقاقات على كل المستويات خلال العقد الأخير، يعد إنجازا يُجيَّر للمرحلة الراهنة، وتحديدا للرائد الأول للإصلاح ممثلا في خادم الحرمين الشريفين. إنها استحقاقات نالتها المرأة السعودية قياسا على مؤهلاتها لا مجرد أنها امرأة فقط، أو لمجرد أنها شريكة وشقيقة للرجل في المجتمع، فيأتي من يظن أن زيادة تمكينها وتوسيع مشاركتها مجرد "شرهة" أو "هبة"، أو أي مفهوم آخر بعيد كل البعد عن السياق الحقيقي للتطورات الراهنة التي يمر بها المجتمع السعودي، تلك التطورات التي أفضى بعضها السابق لما تلاها من تطورات، فما تحقق اليوم لا بد أنه سينتج أمرا آخر في اليوم التالي، وهكذا هي سنة الحياة.
بالنظر إلى أكثر من 20 عاما مضت؛ لم تكن أعداد النساء من حملة الشهادة الجامعية فأكثر تتجاوز سقف الـ 85 ألف امرأة بنهاية 1992، أي ما لا يتجاوز نسبة 2.3 في المائة من إجمالي السكان الإناث من سن الـ 15 عاما فأكثر! مقابل ضعف هذا العدد تقريبا للذكور البالغ عددهم أكثر من 190.6 ألف رجل (أي 5.2 في المائة من إجمالي السكان الذكور من سن الـ 15 عاما فأكثر). بفضل انتشار واتساع التعليم في بلادنا، تمكن كلا الشريكين الرجل والمرأة من رفع مستويات تعليمهما، إلا أن المرأة السعودية أظهرت تفوقا على شريكها طوال العقدين الماضيين، خاصة في مراحل التعليم العالي.
فمع حلول 2004 وصل عدد حملة الشهادة الجامعية فأكثر من النساء إلى أكثر من 548.1 ألف امرأة (نحو 9.0 في المائة من السكان النساء 15 عاماً فأكثر)، مقابل 634.4 ألف رجل (نحو 10.4 في المائة من السكان الرجال 15 عاماً فأكثر). ثم ارتفع عددهن إلى أكثر من 1.13 مليون امرأة بحلول 2013 (نحو 17.1 في المائة من السكان النساء 15 عاما فأكثر)، مقابل 1.2 مليون رجل (نحو 17.7 في المائة من السكان الرجال 15 عاما فأكثر). ومع استمرار الوتيرة الراهنة من التطورات، التي تكشف عن استحواذ المرأة نحو مقعدين من ثلاثة مقاعد من مخرجات التعليم العالي؛ يتوقع أن نتخطى عام 2024 وقد وصل عدد النساء حملة الشهادة الجامعية فأكثر إلى نحو 2.8 مليون امرأة (أي 32.5 في المائة من السكان النساء 15 عاما فأكثر)، مقابل 2.5 مليون رجل (نحو 29.5 في المائة من السكان الرجال 15 عاما فأكثر).
لا شك أن تلك التطورات الاجتماعية والتعليمية ستخلف آثارا عميقة على المجتمع السعودي، ولا شك أيضا أنها تطورات تأتي نتيجة لعدد من العوامل الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية المتحكمة في الوقت الراهن بالمجتمع السعودي، التي كانت إحدى نتائجها تقلص فرص التعليم العالي بالنسبة للذكور، يجدر البحث في أسبابها من قبل الجهات الحكومية المعنية بها، وبالمؤسسات المدنية لدينا. ولا تقف أهمية الوقوف على مسببات تلك التطورات وتشكل العوامل المؤدية إليها، سواء بالنسبة للرجل أو المرأة، بل على عموم تلك التطورات شاملة العقود الماضية والمستقبلية، وماذا يجب علينا القيام به لاحتواء تلك التطورات ونتائجها، على مستوى إيجاد فرص العمل الكريمة، التي تقتضي ضخ مزيد من الاستثمارات محليا وتأسيس الكثير من المشاريع المتنوعة إنتاجيا، والتركيز على نشاط الخدمات بمختلف تفاصيله وفي اتجاه المعتمد بصورة أكبر على ارتفاع المؤهلات العلمية (الاقتصاد المعرفي)، كونه النشاط الأكثر تأهيلا للتوظيف واستثمار مخرجات التعليم العالي.
كون الحديث هنا منصب على المرأة السعودية، التي أظهرت سرعة لافتة في نمو تعليمها طوال العقدين الماضيين، وتظهر اليوم أنها ستحافظ عليها في منظور العشرة أعوام المقبلة وما يليها. يمكن القول إن ما تم إنجازه على مستوى زيادة تمكينها خلال العقد الأخير، على الرغم من أنه يتفوق كثيرا على ما سبقه من مراحل، إلا أنه بمواجهة التفوق وارتفاع مستوى المنجز العلمي والتأهيلي الذي تقف عليه، ولا تزال تضطلع به اليوم، ويتوقع أن تتسارع وتيرته مستقبلا، تؤكد الوقائع على الأرض أنه ما زال أقل بمسافات مديدة من المستحق لها! وعلى الرغم من أن الرجل يعاني بدوره المعضلة نفسها التنموية هنا، ويتجرع مرارتها المؤلمة، إلا أنه يأتي أقل معاناة مما تتجرعه شقيقته المرأة، وتزداد تلك المرارة وألمها كلما ارتفع تأهيلها العلمي مقابل محدودية فرصها والخيارات المتاحة أمامها.
فعلى الرغم من ارتفاع مشاركتها في سوق العمل المحلية من 254.4 ألف عاملة في 2004 إلى أعلى من 914.1 ألف عاملة في 2014، إلا أنها لا تزال قياسا على نسبتها إلى إجمالي السكان النساء 15 عاما فأكثر متدنية، إذ لا تتجاوز 13.0 في المائة مقابل أكثر من ضعف هذه النسبة للرجل. كما لا يمكن إغفال عامل التشويه الذي تسبب فيه تفاقم التوظيف الوهمي، الذي ورط المرأة السعودية الباحثة عن فرصة عمل كريمة توافق مؤهلها العلمي، فوفقا لبيانات التوظيف الصادرة عن وزارة العمل، يقدر تجاوز عدد تلك الوظائف الوهمية بالنسبة للمرأة خلال الفترة من 2011 إلى 2013 لأكثر من 343 ألف وظيفة! كما تعاني ارتفاع معدل البطالة بصورة لا مثيل لها على مستوى العالم، حيث وصل المعدل مع منتصف 2014 إلى 30.3 في المائة، وهو المعدل الأعلى عالميا مقارنة ببيانات البنك الدولي الأخيرة. ولا يقف الأمر عند هذه الحدود من التأخر؛ فعدا أن الفرص المتاحة لها في سوق العمل أقل من مستويات التأهيل والتعليم وحتى مستوى الأجر المستحق، تواجه المرأة السعودية ظروفا وتحديات بالغة التعقيد على مستوى أهلية بيئات العمل، التي تتأخر كثيرا عن المفترض والمنصوص عليه وفق الأنظمة الأخيرة، التي تشترط توفير البيئة المناسبة واللائقة بها، وفقا للشريعة الإسلامية والأعراف والتقاليد الاجتماعية والحضارية لدى المجتمع السعودي.
قد أكون أفرطت في تشخيص الواقع على حساب المأمول، وما هو المطلوب لتجاوز تلك المعضلات التنموية العسرة التي تواجهها المرأة السعودية، إلا أنه تشخيص مفيد ومهم لمن يضطلع بالمسؤولية والمهام تلك، سواء في القطاع الحكومي أو الخاص. فالحلول المأمولة هنا، يجب أن تنطلق في الأصل من ركيزة معالجة التشوهات الهيكلية التي يعانيها الاقتصاد الوطني برمته، ويعاني تبعاتها السلبية كل من الرجل والمرأة، وأن يتم تسهيل الطرق أمام رأس المال الوطني وتشجيعه أيضا للاستثمار محليا، ودعم توجهه نحو تنويع القاعدة الإنتاجية، والتركيز على نشاط الخدمات المتقدم وتحفيزه على ذلك. كما أنه كما تشهد عليه المرحلة الراهنة من عمر المجتمع السعودي، قد أصبح من الضرورة التفكير جديا في إنشاء وزارة أو جهاز حكومي مستقل يعنى بشؤون المرأة والطفولة، يتركز دوره التنموي والاقتصادي والاجتماعي على النهوض بخيارات حياة المرأة والطفل، وتوفير خطوط الحماية والضمان لهما، والعمل على تمثيلهما في الحقل التنموي المحلي المتسع الحراك، وهو الأمر الذي سيشكل وجوده دون أدنى شك في إحداث نقلة ونهضة تنموية رائدة للمرأة والطفل، نتطلع جميعا إلى رؤيته قريبا. والله ولي التوفيق.