إلى الفقيه الجليل أحمد الريسوني
"أنا لا أعمل ولا أتكلم بمنطق الغالب والمغلوب، والقديم والجديد، والحداثوي والماضوي، والعمامة والبرنيطة، أنا أعمل وأتكلم بمنطق الحق والباطل، وبمنطق الصلاح والفساد، وبمنطق الصواب والخطأ، وبمنطق الكرامة والمهانة، وبمنطق الاستقلالية والتبعية، وبمنطق البناء والهدم... "ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات" كما تقول الآية الكريمة"
هذا الكلام للشيخ "أحمد الريسوني"، الفقيه الديني المعروف والمنافح الكبير ضد الحداثة والحداثيين ومن تقاطع معهم من قريب ومن بعيد... كلام الأستاذ الفقيه واضح لا لبس فيه، فالحق معه والباطل مع الآخرين، والصلاح معه، والفساد عند الآخرين، والصواب عنده والخطأ من سمات الآخرين، والكرامة هو صاحبها المدافع عنها، والمهانة تركها للآخرين، وهو الذي يفهم ما تعنيه الاستقلالية تاركا التبعية للآخرين، وهو الباني المجدد والهدم من فعل الآخرين.. باختصار السيد الريسوني يود ان يقول للجميع أن الحقيقة معه، واللبس مع الآخرين.. وهؤلاء الآخرون حتما هم الحداثيون حتى لو قال أن منطقه ليس منطق الحداثوية والماضوية، والدليل على ذلك أنه كغيره من عديدين يشتغلون بالدين كلما أرادوا تشويه الحداثة وذر الرماد في العيون حولها اتهموا أصحابها بالدفاع عن العري والفسق والفجور وال"الشذوذ" وغيرها من الموبقات.. يكفي أن يقول "شيخ جليل" هذا الكلام في حق الحداثيين، حتى يصدقه العامة ويصفق له المعجبون وكثير ممن ترسخت العلوم في آذانهم بهذه الطريقة لأنهم لا يقرؤون ولا يفتحون الكتب للاطلاع على المصادر وعلى الحقيقة لعلها تكون في مكان آخر غير "لسان" شيخنا الجليل.
كلام السيد الشيخ كان بمناسبة رد على سؤال ل"هسبرس" بمناسبة مقال سابق له بعنوان "الحداد على امرأة الحدَّاد"..أعطى السيد الريسوني الحق فيه لنفسه بالحكم على "أصناف" من النساء لم يتبد له غيرهن على ما يبدو كما هو حال الكثير من العاملين من داخل الدين..فالمرأة بالنسبة لقطاع واسع من رجال الدين عبارة عن "قنبلة" جسدية موقوتة تهدد الغرائز الحيوانية في الشارع وتثير من الفسق والفجور ما يكفي لتغرق البشرية في الشر والفساد..
الأستاذ الريسوني تكلم عن النساء اللواتي وجب في حقهن الحداد، ولكن السيد الريسوني لم ينتبه إلى أن هناك خيطا نابضا واحدا بين كل النماذج التي أوردها في مقالته "إنه الجسد" (أي الجنس).. كل أصناف النساء التي ذكرها شيخنا الجليل تتناول بشكل من الأشكال من كن بشكل من الأشكال إما كاسيات أو عاريات أو شيء من هذا القبيل.. هو يعيب على الرجال الذئاب (بنهاية المقال) كونهن حصرن عمل المرأة في جسدها بالفنادق والشوارع والفن وغيرها.. إن الشيخ هنا يتكلم منافحا عن المراة كما يحاول أن يوهم قارئه مقابل خزي يمارسه الحداثيون وهم يدعون المراة إلى التعري والتحول إلى بضاعة في سوق النخاسة الجديدة وهو بهذا مع المراة وليس ضدها، وبهذا يكون الحداثيون هم الذين يبخسون من قدر المراة بتعريتها وهو المنافح عنها الضامن لكرامتها، وهذا كله كلام منطقي أتفق مع الشيخ فيه من الألف إلى الياء فحتى الغربيون المتقدمون المتحضرون الحداثيون جدا لم يتخلصوا من هذه العادة البغيضة ولازالوا يستعملون جسد المراة من اجل تحقيق مزيد من المكاسب المادية وهذا جار به العمل في كل مكان ولا حديث للحركات النسوية في الغرب سوى عن هذا التبخيس إلى غير ذلك من هذا الكلام (على رأي فيصل القاسم)... نعم كل هذا جميل، والمراة أقدس واكرم وأطهر من أن تتحول إلى مجرد جسد ولا أحد سينازع السيد الريسوني في هذا الكلام ولكن...
دعوني أولا ألخص ثم أواصل ما بعد "ولكن..".. السيد الريسوني أعلن الحداد على المراة الحداثية لأنها تتعرى وتتحول إلى بضاعة لتحقيق ربح أكثر (للرجل) والحداثيون الفاسقون هم المسؤولون عن هذه الكارثة لأنهم أكبر المنافحين عن ثقافة العري والفسق والفجور..وبهذا يحاول السيد الريسوني أن يمارس مزيدا من الدغدغة على عقول الناس والقراء حتى يزداد سوء فهمهم الكبير للحداثة والعلمانية وغيرها ويزيد ابتعاد الناس عن الحقيقة..
طيب فقيهنا الجليل.. دعوني امر لما وراء "ولكن..".. هل سيادتكم على يقين تام من كون العري أتت به الحداثة وانه ظهر "أول أمس بعد منتصف الليل" أم أن العري والفسق والفجور والدعارة وغيرها من الموبقات بدأت منذ عصور بعيدة؟..لماذا لم نسمعك يوما شيخنا الجليل وانت تقوم بنقد جريئ لكتب التراث التي تحمل طياتها من العري والفسق ما لا يعد ولا يحصى (وسأعطيك أمثلة)؟..ألست أعلم مني بما تحفل به كتب التراث من مجون موثق ومفاهيم مختلفة عن هاته التي تتكلم عنها اليوم بخصوص العري وما شابه؟.. لماذا لم تخبرنا يوما عن "عورة ملك اليمين" التي يقول الفقه أنها كعورة الرجل من السرة إلى الركبة؟ ولماذا لا تكلمنا عن أسواق النخاسة التي حماها التراث وشرعن لها وقننها بنصوص وضوابط واردة في الكتب التي يعتبرها المشايخ صحيحة؟ ولماذا لا تكلمنا عن طريقة عرض ملكات اليمين والسبايا وما كن يحملنه من ملابس وما كان يفعله الرجال بأعضائهن على سبيل "التمحيص والتجريب"..؟... لماذا لا تكلمنا عن "العري" كما هو وارد في كتب السيرة ودعني أورد إليك بعض الأمثلة حتى لا يكون كلاما هباء منثورا..
1) " عن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم،قال: إذا زوج أحدكم خادمه، عبده، أو اجيره، فلا ينظر إلى ما دون السورة وفوق الركبة"..صحيح سنن أبي داوود،ج 2 ص 523..ومعنى الحديث واضح فمالك الأَمَة لا يحق له النظر إلى ما أسفل السرة وفوق الركبة عندما يزوجها لخادمه أو عبده أو أجيره..فما بين السرة والركبة هي عورتها رغم كونها "امراة".
2) "عن عبد الرزاق، عن عبد الله بن عمر عن نافع : كان (عمر) إذا أراد أن يشتري جارية فراضاها على ثمن، وضع يده على عجزها، ونظر إلى ساقيها، وقبلها، (يعني بطنها)".. مصنف عبد الرزاق الجزء السابع صفحة 286.
3) "والمراد مما ملكت أيمانهم "السريات" والتخصيص بذلك للإجماع على عدم حل وطء المملوك الذكر، والتعبير عنهن ب "ما" على القول باختصاصها بغير العقلاء لأنهن يشبهن السلع بيعا وشراء (الكلام عن السبايا النساء) أو لأنهن لأنوثتهن المتدنية عن قلة عقولهن جاريات مجرى غير العقلاء...فلعمري إنهن حينئذ إن لم يكن من نوع البهائم فما نوع البهائم منهن بعيد..."..تفسير الآلوسي ج 18 ص 6...وهي فقرة لشرح الآية الكريمة الواردة في سورة "المؤمنون" "والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين"... لماذا لم نسمع السيد الريسوني ولو مرة واحدة وهو رجل الدين المضطلع يقوم بنقد صورة المراة المتدنية في كتب التراث الإسلامي ولماذا لم يقل كلمة واحدة يوما عما يقوله الآلوسي عن "الأمة أو ملك اليمين" ووصفه لهن بالبهائم والسلع تفسيرا لقول كريم من الله..؟..
4) عن ثمامة بن عبد الله بن أنس عن جده أنس بن مالك، قال: كن إماء عمر رضي الله عنه يخدمننا كاشفات عن شعورهن تضرب ثديهن"..سنن البيهقي الكبرى، ج2 ، ص 321..
5) عن عيسى بن ميمون، عن محمد بن كعب، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أراد شراء جارية أو اشتراها فلينظر إلى جسدها كله إلا عورتها، وعورتها ما بين معقد إزارها إلى ركبتها"..
ما أوردته أعلاه ليس كلامي أنا بل كلام بعض كتب التراث وبعض كبار مؤرخي السيرة ولست أعتقد أني أعلَمُ من شيخنا الريسوني لكي أرد على ما قد يكون بهتانا محتملا استقيته من بعض مشايخ الماضي وأشير أني لم أشأ أن أخوض في تفاصيل أخرى حتى لا يتهمني أحد بالتحامل على الإسلام لان كتب التراث غنية بأشياء لا يمكن أن يتقبلها العقل وكان الاوجب بفقهاء دين كالسيد الريسوني الانبراء لتصحيح كل الادعاءات المغرضة عن السيرة عوض الانبراء لمحاربة طواحين الحداثة..
بالنهاية سيكون هذا هو المطلوب.. أن يواصل السيد الريسوني حربه الجليلة مناصرة لكرامة المرأة ضد العري والفسق، ولكن هذه المرة ببنادق مصوبة نحو كتب التراث التي قد تكون افترت على السيرة وتجنت عليها وبالغت في "فقه الإماء وملكات اليمين والسبي" وغيرها من الطرق الشرعية لممارسة الجنس مع أكبر قدر من النساء (خارج مؤسسة الزواج).. هذا ما نريده من شيخنا الريسوني لعله يوما يتوقف عن اتهام الحداثيين بالوقوف وراء "الردة الجنسية الكبرى في العصور الحديثة" وكونهم هم المسؤولون عن تفشي الفاحشة والمنافحون عنها والمدافعون عن العري والفجور والمجون..عليه الآن يثبت لنا أنه ثابت على موقفه النبيل اتجاه المرأة.