الارشيف / عالم المرأة

يوميات فتاة قروية

" ختام " فتاة قروية، كتبت في مذكراتها تقول :

اليوم يوم زفافي..
أعتقد أنني صغيرة جداً على الزواج، فـعمري ثلاثة عشر عاماً، و ما أزال أحب اللعب بالدمى أو مع صديقاتي في الباحة القريبة من الدار..
لكن والدي يرى أنني كبرت، و أنه صار لزاماً علي أن أتزوج، و أنجب الأولاد، و أتولّى المسؤولية الأسرية..
حسب منطق أبي و رجال قريتي على البنت أن تتزوج عندما تخطو على أعتاب الثالثة عشرة من عمرها، فهو أستر لها و أضمن لشرفها و مستقبلها..

كان هذا القرار من والدي صدمة كبيرة لي.. و لكنها ليست الأولى..

فقد كانت الصدمة الأولى قبل شهرين، حين قرر والدي بقراره المنفرد أن يحرمني من إكمال دراستي الإعدادية، لأن ذهاب البنت إلى المدرسة بعد سن الثانية عشرة حسب رأيه أمر خطير، لأنه قد يعرّضها لمناوشات أولاد الحرام، و يدع مجالاً للألسنة كي تتناول عرضها بالسوء.. باختصار.. مكوث البنت في بيتها أستر لها..
بكيت و تألمت كثيراً، و لكنني لم أجرؤ على الاعتراض أو حتى على نظرة عتاب، فوالدي رجل صاحب سطوة و جولة..
و حسب منطق أهل قريتي فإن للرجل كامل الصلاحية في أن يقود أهل بيته كيفما يشاء، و عليهم أن يطبِّقوا و يرضخوا دون اعتراض أو انتقاد أو امتعاض..

 

 

أنا دائماً أتساءل :
- لماذا يتعامل الرجال مع زوجاتهم و أولادهم بعنجهية و جبروت و تكبُّر ؟
- ألم يخلق الرجال من نفس الجنس الذي خلقت منه النساء ؟
- و من الذي منح الرجال هذه السطوة و الحظوة ؟
طرحت تساؤلاتي هذه أمام أمي و جاراتنا أم محمد و أم هيثم و أم خلف.. فكانت إجاباتهم واحدة تقريباً..
- الله تعالى منح الرجل هذا الحق يا ابنتي، و أوجب على المرأة أن تكون تابعة له مستسلمة لأوامره..

لم تعجبني هذه الإجابات، فأنا أعلم علم اليقين أن الله تعالى عادل، و لا يمكن أن يجعل الرجل سيداً و المرأة عبدة له..
و حسب قناعاتي فإن الرجل هو الذي نصّب نفسه حاكماً و سلطاناً، و أن المرأة بتذلُّلِها له و خنوعها أمامه و استسلامها لرغباته قد سهلت له الطريق، و مكَّنته من الاستبداد..
طبعاً لم أجرؤ على مفاتحة أحد بآرائي، لأنني أعرف مسبقاً بأنهم سيتهمونني بالتمرُّد، و ستنهال علي سياطهم لتجلدني و تقمعني..
أنا الآن أشعر بالحنق و القهر و الذل و  الاستعباد.. وبعد ساعات فقط سوف أزفُّ إلى قدري رغماً عني..
وداعاً يا عالم الصبا الجميل.. وداعاً يا دميتي الحلوة..
وداعاً يا أيام طفولتي.. وداعاً يا أصدقاء الطفولة..
فأنا منذ اليوم سأساق إلى سجني الأبدي، حيث أمضي ما تبقى من سنوات عمري..

 

****************************


مضى على زواجي أربعة أعوام..
أصبح لدي طفلان جميلان رائعان : حسين و حمود.
أما علاقتي مع زوجي " كمال " فهي ممتازة، لأنه رجل بكل ما تعنيه الكلمة من معانٍ راقية، فهو متعلم، و يحمل شهادة في الكيمياء، و يختلف عن رجال قريتي الذين أعرفهم أو أسمع عنهم، فهو ليس كأبي و عمي و خالي و عن جيراننا أبو مسعود و الشيخ كامل و أبو محمد، فـبالرغم من حزمه و قوة شخصيته، إلا أنه ليس مستبداً و لا متسلطاً..
و أنا أعزو هذا الاختلاف إلى العلم الذي أنار عقله و صقل طبائعه من جهة، و إلى انخراطه بأبناء المدينة من جهةٍ أخرى...

يرى " كمال " أن الله تعالى خلق المرأة و الرجل من جنسٍ واحد، و ليس لأحدهما أفضلية على الآخر من حيث الجنس، فكلنا لآدم و آدم من تراب، و أن الأفضلية تكون بحسب التقوى و الأخلاق و حسن العمل..
كما يرى أن الزوج في نظر الدين قوّام على زوجته، و هذه القوامة توجِّب على الزوج أن يرعى زوجته و يقوم بالإنفاق عليها، كما توجِّب على الزوجة أن تطيع زوجها ضمن حدود المنطق و المعقول، أما ما يفهمه الناس عن القوامة من معاني الاستبداد و التسلُّط، فهو برأيه أمر اخترعه عقولهم المريضة، و ليس له من الدين مستند، فالقوامة هي إشراف و رعاية بالحسنى و المحبة، و الدين لا يجيز للزوج أن يستعبد زوجته أو يستبد بها، و من هنا يحق للزوجة أن تناقش زوجها أو تجادله في أمور المعيشة المشتركة بينهما، و ليس هذا حراماً و لا عيباً و لا عاراً..
لا تقتصر صفات " كمال " الرائعة على حسن تعامله معي، فهو أيضاً يتعامل مع ولدينا حسين و حمود باللطف و اللين و المرحمة..
لم أكن أتوقع قبل أن أرى علاقة كمال الرائعة بأولاده، أن يكون هناك والد رؤوف رحيم، يحمل أولاده و يقبّلهم و يدللهم و يداعبهم، فقد كان هذا من الممنوعات في قاموس عائلتي و أهل قريتي..

أتذكر الآن كيف كانت علاقتي أنا و إخوتي بأبي حين كنا صغاراً، فقد كان حين يدخل إلى المنزل يصفق خلفه الباب بقوة، و كانت أمي تهرع إلى غرفة الجلوس حيث كنا نلعب، لتنهرنا عن الصياح، و تحملنا على الخروج من الغرفة فوراً، لأن السيد الوالد يريد الدخول إليها..
لا أذكر ابداً أن والدي حملني أو حمل أحد إخوتي، أو قبّلنا أو حتى نظر إلينا نظرة حب و حنان..
يمكنني أن أقول : أنا إلى الآن لا أقوى على النظر في وجه أبي، و لا أستطيع محادثته، و لا الجلوس في الغرفة التي يجلس فيها، و لن أكون متجنية إن قلت : لم أشعر يوماً بأي عاطفة أو محبة تجاه والدي..
أنا أحمد الله تعالى أن وهبني زوجاً يختلف عن والدي في كل شيء.. و أتمنى لكل فتاة في قريتي زوجاً كزوجي..

********************

اليوم سأستلم ورقة طلاقي من " كمال " حسبما قرر والدي..
هكذا ببساطة.. يظن والدي أنه يملك حق تطليقي حسب مشيئته، تماماً كما امتلك حق تزويجي حسب مشيئته..
يعتقد والدي أنه يحميني و يفعل ما فيه مصلحتي، و لا يدرك أنه يظلمني و يتعدّى على حقوقي..
لا يمكنني أن أصف مشاعر الاستياء و الإحباط و الألم و الحزن التي ألمّت بي منذ ذلك القرار السخيف الذي ارتأه والدي، و عمل على تنفيذه و تطبيقه..
أما سبب القرار فهو تافه و لا يستحق أن يوصل إلى هذه النتيجة القاسية..
فمنذ شهرين تزوج ابن عمي " جاسم " من " فاطمة " أخت زوجي، و لن أكون متجنية إن قلت إن " جاسم " نسخة طبق الأصل عن عمي و والدي، فهو يرى نفسه السيد المطلق.. طلباته أوامر و النقاش معه ممنوع..

لم تستطع " فاطمة " أن تهضم استبداده و تسلُّطه، فقد كانت تطمح أن تتزوج من رجل يشبه " كمال " في لطافته و كياسته، و قد حاولت منذ البداية أن ترفض الزواج من " جاسم "، و وقف زوجي إلى جانبها مؤيداً، و لكن عقلية والدها التي لا تختلف عن عقلية والدي و عمي استنكرت أن يكون يكون لها رأي في الزواج، و تم تحديد يوم الزفاف رغماً عنها و عن " كمال "..
لم تمكث فاطمة مع ابن عمي سوى شهرين، و بعدها لا أحد يدري أين اختفت...
الإشاعات تقول : هربت مع عشيقها..
و لكنني أعتقد جازمة أنها طاهرة و عفيفة، و أنها هربت بمفردها، فهي فتاة ملتزمة بأوامر الدين، و لا تعرف الحرام و لا تفكر في ارتكابه..

مسكينة فاطمة !! فقد فضّلت التشرُّد و الضياع على عيشة قد تحظى الحيوانات بأفضل منها في كثير من الأحيان..

 

 

لاقى هروب " فاطمة " استهجاناً فظيعاً لدى أهل القرية، و تطاولت الألسُن تلوك في عرضها و عرض عائلتها..
لم يتقبّل والدي فكرة بقائي في بيت زوجي، لأن عائلته حسب رأي والدي قد أصبحت في الحضيض، و لم تعد تليق بي و لا بعائلتي، فأرسل أخي " مروان " ليستعيدني من جديد، و كأنني متاع انتهت المدة المسموح بها لإعارته، و أمره أن يجرّني من شعري إلى بيت أهلي، إن لم أقبل ذلك بمحض إرادتي..

طبعاً.. لم أقبل هذه الأوامر الرعناء.. بكيت و رجوت و تضرّعت.. ثم استنكرت و تمرّدت.. و لكن ذلك كله لم يفدني في شيء.. فقد نفّذ " مروان  "أوامر أبي حرفياً، و جذبني من شعري، و هو يزمجر قائلاً :
- أيتها الحقيرة المتمردة.. سوف نربيك من جديد..

كان قرار والدي صدمة كبيرة وقعت علي و على زوجي و أولادي الثلاثة محمود و حسين و مرام وقع الصاعقة..
و هناك في بيت أهلي حاولت أن أفاتح أبي في الموضوع، و لكنني لم أجرؤ، فتوسّطت لدى أختي الكبرى كي تقنعه بالعدول عن قراره..
المسكينة ما إن فتحت فمها بالنقاش حتى اعتبرها عاقة، و انصبت عليها اللعنات و المسبّات، و بات محرّماً زيارة أهلي و رؤيتهم..
بعد هذه العقوبة القاسية التي نزلت بأختي رفضت أمي و أخواتي التدخُّل في موضوعي..
لم يبق أمامي و أمام " كمال " سوى أن نفكر بالهرب إلى منطقةٍ أخرى بعيدة عن عيني والدي و سُلطته..
و بدأنا نعد العِدّة و نتجهّز للهرب، في الوقت الذي كان فيه والدي يَعِدُّ العِدّة لطلاقي..
لست أدري كيف علم والدي بما نخطط له أنا و كمال، فأرسل إلى كمال من يهدِّده بقتلنا جميعاً إن تجرأنا على أوامره..
عدل " كمال " عن الفكرة خوفاً علينا، و بقيت أنا في بيت أهلي أعاني مرارة الذل و الهوان من جهة و مرارة الشوق و لوعة الحنين من جهةٍ أخرى..

*****************

مضى شهر على استلامي لورقة الطلاق..
بعد ثلاثة أيام فقط نُقِلتُ إلى المشفى فاقدة للوعي..
شخّص الطبيب ما أصابني بأنه جلطة دماغية مجهولة الأسباب..
بكت أمي بصمت، و هي تدمدم بصوت منخفض لم يسمعه أحد غيري :
- بل الأسباب معروفة يا دكتور.. فقد أصاب " ختام " من المصائب ما يجعل الجبال تنحني تحت وطأة ثقله..
أما أبي فقد زارني في المشفى، و وقف أمام سريري و تلاميح وجهه صامدة صلبة كسابق عهده.. نظرت إليه، فأحسست نفسي أمام رجل لم أعرفه من قبل..
كانت هذه هي أول مرة أمعن فيها النظر في عيني والدي، و قد اكتشفت وقتها أن عينيه زرقاوتان، و أنهما تبرقان..
خُيّل إليّ وقتها أنهما كانا تبرقان بسبب بقايا الدموع التي ذرفها قبل دخوله إلى غرفتي، و لست أدري هل كان فعلاً يذرف الدموع أم أنني كنت أتخيّل ذلك..
المهم في الموضوع أنني تجرأت على النظر في عينيه، و أردت بذلك أن أعبّر له عن حنقي و غيظي و اعتراضي..
و كنت أتوقع أنه سيشعر بالندم حين يراني بين الحياة و الموت، فـيلينُ قلبه، و يسمح لي بالعودة إلى زوجي و أولادي..
و لكن.. على ما يبدو فإن والدي كان أقسى و أعتى مما تصوّرت، فموقفه لم يتغير، و زيارته لي في المشفى لم تتكرر..

خرجت من المشفى بعد أسبوع محطمة بائسة يائسة..
أخبرني الطبيب أن علي أن أتناول عدة أدوية في اليوم، و أن أحافظ على هدوء أعصابي، كما نصح أهلي أن يوفِّروا لي أسباب الراحة، و أن يبذلوا وسعهم في الابتعاد عن كل ما قد يتسبّب في إزعاجي..
هزّت أمي رأسها و لم تجب بشيء، أما أبي فقد كان غائباً و لم يسمع نصائح الطبيب، و لم يجرؤ أحد على أن ينقلها إليه.. فالكل يعلم أنه هو سبب مرضي، و الكل يهابه و يخاف منه..
بدأت الآن أحس أن أمي تعاني مثل معاناتي و ربما أكثر..
كنت أظن استسلامها قبل اليوم دليلاً على سرورها، و لكني بِتُّ الآن متيقنة من أنها هي الأخرى تكره الاستبداد، و لكنها تواجهه بطريقتها الخاصة..
على كل حالٍ.. فقد كان مرضي نقطة تحوّل مهمة في تحسين علاقتي بأمي.. الآن اكتشفت كم هي رقيقة و حساسة و حنونة..
و على ما يبدو فإن معاناتها من استبداد والدي كان سبباً مهماً في توترها الدائم و صراخها المستمر علي و على إخوتي..


****************************

خمس سنوات مرّت علي و أنا بعيدة عن أحبتي ( زوجي و أولادي )..
أراهم بين الفينة و الأخرى في خفية عن عيني والدي..
أستطيع أن أقول : إنني لم أذق طعم السعادة منذ أن أُجبرت على فراقهم..
ما يزال قلبي يعشق " كمال "، و ما تزال صورته تعشش في ذاكرتي، و لا أعتقد أن أحداً في العالم يستطيع أن يمنعني من محبّته و التفكير فيه..
في مساء كل يوم  أضطجع في سريري و أترك لخيالي العنان ليطير إلى حيث يقطن أحبتي..
أرى " حسين " و قد أصبح شاباً وسيماً مفتول العضلات، يجلس خلف طاولته يذاكر من أجل الامتحان، فهو الآن في الصف الثالث الإعدادي، و بعد أيام سوف يتقدّم للامتحان..
أما " محمود " فعلى الرغم من أنه يصغر أخاه بسنة واحدة إلا أنه ما يزال أقرب إلى سن الطفولة منه إلى الرجولة، و هو يعشق اللعب بالكرة لدرجة الإدمان، و يهمل واجباته المدرسية بسببها، و كثيراً ما أتخيّله و هو يلعب مع أصدقائه في الفناء القريب من الدار، و قد احمرَّ وجهه و تناثر العرق على جبينه..
كما أتصوّر حبيبتي " مرام "، و عمرها الآن اثنتا عشرة سنة، و هي تلعب بدميتها، و تسرّح شعرها و تغيّر ثيابها، ثم تضمها إلى صدرها و هي تدندن بأغنية كنت دائماً أغنيها لها عندما كانت صغيرة..
أما " كمال " فأتخيّله و هو يجلس بجانب زوجته " عفاف "، يتجاذبان أطراف الحديث..
نسيت أن أقول : لقد تزوّج " كمال " من " عفاف " منذ سنة فقط، بعد أن كان يرفض فكرة الزواج بإصرار، فقد كان يأمل أن يتراجع والدي عن قراره، و يسمح لي بالعودة إلى بيتي و أسرتي، و عندما فقد الأمل تزوّج من " عفاف "، و هي معلمة مادة الفيزياء في نفس المدرسة التي يدرّس فيها " كمال "، و هي امرأة عانس و عمرها أربعون عاماً، و هو نفس عمر " كمال "..
إلى الآن لم تنجب " عفاف " أولاداً، و أظن أن قطار الإنجاب قد فاتها، و قد يكون ذلك لفائدة أحبّتي، فـ " عفاف " إمرأة عاطفية، و هي تفرغ شحنتها العاطفية في محبّة أولادي و رعايتهم..

 

 

يمكنني أن أقول : هذه الفترة المسائية التي أمضيها كل يوم في الاسترخاء و التخيُّل هي إكسير الحياة الذي يمدّني بالأمل و يجدد فيّ نبض الحياة، و لولاها لما استطعت أن أكمل دراستي الإعدادية و الثانوية، فأنا من حيث المبدأ أحب الدراسة، و لكن حبّي لأولادي كان حافزاً مهمّاً لاستكمال دراستي، فأنا أكره أن يقال : أمهم جاهلة..
لا بد لي أن أنوِّه هنا إلى أن دراستي كلها كانت في المنزل بجهودي الفردية مع قليل من المساعدة من قبل المعارف و الأصدقاء.. و لست أدري إن كان والدي يعلم أنني أكمل دراستي أم يجهل ذلك، فهو دائماً مشغول في عمله نهاراً، و عندما يعود في المساء يدخل إلى غرفته، و تتبعه أمي لتخدمه و تلبّي طلباته..

********************

عمري الآن ثلاثون عاماً.. و سوف أُزفُّ اليوم إلى عريسي أبو هشام.. و هو رجل في الخمسين من عمره، متزوّج و لديه خمسة أولاد، و زوجته مريضة مرضاً مزمناً منذ سبع سنوات..
التقيت بأبي هشام منذ بضعة أشهر، حين سجّلت في الجامعة فرع كلية الآداب في المدينة، فهو يعمل إدارياً في هذه الكلية، و ينتمي إلى قريتي، و لكنه يعيش مع عائلته في المدينة منذ أمدٍ طويل..
عندما تقدّم أبو هشام لخطبتي وافق والدي مباشرة، فهو يعرف عائلته جيداً، و يعرفه أيضاً حين كان صغيراً..

 

و قد تقبّلت أنا قرار والدي هذه المرة عن قناعة و رضا، فأنا أطمح أن أكمل دراستي الجامعية بجدارة و تميز، و هذا يتطلّب مني أن أحقق نسبة عالية من الدوام، و هو أمر صعب في ظل العيش في القرية من جهة و في كنف والدي من جهة أخرى..
كما أنني أتوسّم في أبي هشام أن يكون مختلفاً في طبائعه عن أهل قريتي بسبب عيشه في المدينة، و أطمح أن يكون زواجي منه فرصة للخلاص من جحيم الاستبداد و التسلّط الذكوري في عائلتي، الذي لا يقتصر على والدي، بل يمتد ليشمل إخوتي الذكور، الذين ورثوا عن أبيهم طبائعه و طريقة تفكيره و مواقفه، و قد عانيت بشدّة من تدخلاتهم المستمرة و المزعجة في شؤوني..


لا يمكنني أن أحدّد مشاعري تجاه أبي هشام.. أستطيع أن أقول : إنني أتقبّله، و لا أرى فيه عيباً، و لكنني لا أشعر تجاهه بأية مشاعر إيجابية إلى الآن.. و لست أدري هل سأتمكّن من أن أجد له مكاناً في قلبي المملوء بذكرى " كمال " و محبّة الأولاد..
أنا الآن أشعر بقلق شديد، و أرجو الله تعالى أن يكتب لي الخير، و يصرف عني الشر، و يرضيني بما قسمه لي..

 

البارحة توفّي والدي بعد فترة مرض تجاوزت السنة، فقد أُصيب بجلطة دماغية جعلته حبيس الفراش طوال هذه المدة، و لم يكن فيه شيء يتحرك سوى لسانه و عينيه..
تناوبنا أنا و إخوتي على خدمته، و بذلنا جهدنا لتحصيل راحته، و قد عمّنا شعور مشترك بالدهشة..
أفبعد كل ما اشتهر به والدي من قوة و جبروت، يصبح الآن رجلاً ضعيفاً لا حول له و لا قوة !!
سبحان الواحد القهار الذي يقهر الجبابرة و لا يقهره أحد..
لم يكن أي منا يستطيع أن يلمس يديه أو ينظر في عينيه قبل مرضه، و لكنه اليوم بات يحتاج إلينا في كل شيء، فنحن نطعمه و نلبسه و ننظفه و نحمله و نقضي له حاجته و نقلبه يميناً و شمالاً حتى لا يتورّم جلده و يتفسّخ..
لست أدري كيف كان شعور والدي أثناء مرضه، و لكنني أرجّح أنه شعور سيء..
أنا أظن أن والدي كان محظوظاً جداً، لأننا عكفنا جميعاً على خدمته، فأبي لم يقدّم لنا مسبقاً أية مشاعر حميمية تجعلنا نتعاطف معه فترة مرضه، و لكننا جميعاً متدينون، و نعرف أن للأب حقوقاً على أولاده مهما كان سيئاً، و لذلك تجاهلنا مشاعرنا السيئة، و قمنا بواجبنا تجاهه..

 


 

لا أزال أذكر ذلك اليوم الذي اقتربت فيه من والدي، أريد أن أطعمه وجبة الغداء المطحونة.. كان يفتح فمه ليأكل، و عيناه تحدِّقان في عيني..
نظرت إليه.. بدا لي أنه يقاوم نزول الدمع من عينيه، و أحسست من حركة عينيه و نظراته أنه يريد أن يبوح لي بسر..
تخيّلته لبرهة و هو يتأسف لي عما فعله معي.. تصوّرته و هو يقول لي : سامحيني يا ابنتي..
لكني تجاهلت إحساسي و قاومت تخيلاتي، فأنا أعلم أبي جيداً، فهو لا يشعر بالندم على خطأ ارتكبه، و لن يشعر به أبداً..
لم يخب أملي.. فبعد تلك الحادثة بأيام، أمسك بيده المرتجفة يدي حين كنت أطعمه، و شدّ عليها و هو ينظر إلي و يبتسم..
ثم تحركت شفتاه، و لكنه توقّف عن الكلام فجأة، و قد جالت في عينيه دمعتان.. دقيقتان مرّتا و هو على هذه الحال، يمسك بيدي و بقايا الدمعتين ما تزالان على خده..
أخيراً نطقها.. قال لي بصوت مختنق :
- سامحيني.. سامحيني يا ابنتي..
أسقط في يدي.. تجثمت أمام ناظري أحزاني القديمة..
و بالرغم من أنني كنت طوال عمري أمنيّ نفسي بسماع عبارات الاعتذار من والدي، و لكنني اليوم لم أجد لها الصدى الجميل الذي كنت أتوقّعه، و شعرت بها بدلاً من ذلك تافهة ضئيلة..
فما نفع الاعتذار بعد كل الذي جرّه علي و على عائلتي من أحزان و آلام ؟ و كيف يمكن لكلمة واحدة أن تعوِّضنا عن الأذى الكبير الذي ألحقه بنا على مدى سنواتٍ طوال ؟
مع هذا كله كنت أرغب أن أجامل والدي، و أن أقول له شيئاً يطيّب خاطره المكسور، و لكنني لم أستطع.. فقد تراءت لي صور الأحبة.. كمال و حسين و محمود و مرام..
أحسست بهم يطبقون على فمي و يمنعوني من الكلام..
نظرت إليه نظرات مملوءة بالحزن و العتاب، ثم أشحت بوجهي عنه، و قد اغرورقت عيناي بالدموع..
و عندما يسألني أحدهم بعد موته : هل سامحت أباك ؟
أجيب : أتمنى أن أسامحه..
نعم.. أتمنى ذلك.. و لكني لا أستطيع.. فأنّى لـمآسِ عمرها عقود أن تمحوها كلمة اعتذار..
صحيح أنني الآن متزوجة، و أن زوجي أبو هشام رجل صالح طيب القلب، و قد رزقني الله تعالى بولدين يملاءان عليّ حياتي، كما أنني تخرّجت من الجامعة بدرجة جيد جداً، إلا أنني ما أزال أحنّ إلى عائلتي الأولى بالرغم من أن زوجي أبو هشام يسمح لي باستضافة أولادي من زوجي الأول كمال، و يحبهم و يدللهم عندما يأتون لزيارتنا.. و لكن.. ما الحب إلا للحبيب الأول..
و أظن أن " كمال " يشاطرني المشاعر نفسها، فهو مسرور مع زوجته عفاف، و هي إمرأة صالحة، ترعى أولادي و تحبّهم، و لكنه لا يفتأ يذكرني بالخير، و يطلب إلى أولادي أن يحسنوا معاملتي و يلبّوا مطالبي..

 

أنا الآن أدعو الله تعالى أن يغفر لوالدي، و يمكّنني من الصفح عنه..
و أتوجّه إلى كل أبٍ ناصحة 
أولادكم أمانة في أعناقكم..
و كلكم راعٍ و كلكم مسؤول عن رعيّته يوم القيامة..

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى