كانت الحافلة تسير بنا في الطريق الى السعوديه لاداء العمره ، وكان الظلام قد حل علينا والمرشد الذي يرافقنا يحاول اشاعة جو من التشويق والحماسة عبر طرح الاسئلة الدينيه مضت ساعات لم يأخذ فيها المرشد سوى القليل من الراحه ، يطرح الاسئلة تلو الاسئله ويسرد المعلومات باسلوب طريف ويحاول شرح منهاج العمره لمن يعتمر فينا لاول مرة، وكنا نتبارى في رفع ايدينا والاجابة عن اسئلته ، ما عدا ذلك الرجل الجليل بلحيته البيضاء بقي جالسا بجانب زوجته ،، صامتا ، يراقبنا دون ان يشارك بالحديث واذا ما طرح احدهم عليه سؤالا يجيب على قدر السؤال ثم يعود لصمته ، وعند اقترابنا من المدينة المنوره ، اثار صمته فضول العديدين ودخلوا معه في حوار فاذا به رجل ممتلئ علما ومعرفة ، واذا بصمته ،، صمت العارفين ، بدأت الصورة تتضح شيئا فشيئا لدى دخولنا الى المدينة المنوره ، وضع الرجل امتعته على عجل في غرفته بالفندق، ومضى مسرعا الى المسجد النبوي وهو يهتف بصوت خافت ( يا حبيبي يا رسول الله) ، انكشف الامر لحظتها لقد كان الرجل يوفر انفاسه طوال ساعات الرحله ، ليرسلها زفرات حرى امام ساكن الروضة الشريفه لعله يحظى بقبس من نوره ، لم يكن صمته صمتا كاملا تاما ، صمت لسانه ولم يصمت قلبه كما يقول احد الزهاد (من صمت لسانه ولم يصمت قلبه ، خف وزره) . طقوس للزيارة لا يتقنها الا العشاق الصادقون .
في المدينة شاهدت طقوسا عديدة لعاشقي الحبيب الهادي ، وكل يحبه على طريقته ، هاهو رجل يرتدي عمامة سوداء ، يقف خارج اسوار الحرم المكي وبيده كتاب ادعيه يتلو منه كلمات بلغته ، وهو ينظر بعينيه ناحية الروضة الشريفه ، ربما لو اصغى السمع قليلا لسمع صاحب المكان يناديه (اقبل يا رجل ولا تتردد ولا تتوجس ، فصاحباي الراقدين الى جواري واللذان تأنف من السلام عليهما هما قرة عيني وحواريي ، هما سيدا كهول اهل الجنه من الاولين والآخرين الا النبيين والمرسلين .
في اليوم التالي ، انهي صلاة الظهر ، وامشي في ساحات الحرم الشاسعه لكي اعود الى حيث اقيم ، يمشي على مقربة مني ثلاثة شبان من مسلمي اوروبا ، وعند الوصول الى البوابة الخارجية والتي تحاذي الروضة الشريفه يلتف الشبان الثلاثة على نحو مفاجىء الى الخلف وبحركة جماعيه يضعون ايديهم على صدورهم ينظرون الى ناحية الروضة الشريفه يبتسمون وينحنون انحاءة اوروبية مهذبة ثم يخرجون بظهورهم من البوابة .
من منا لم تخنقه العبرات وهو يقرأ او يستمع الى سرد للحظات الاخيرة من حياته ( عليه الصلاة والسلام ) ؟ من منا لم يتخيل ذلك اليوم ،، الثاني عشر من ربيع الاول العام الحادي عشر للهجره يوم الاثنين ، الحبيب يرفع ستر حجرة عائشه يلقي النظرة الاخيره على عامة المسلمين وقد انتظموا في صلاة الفجر ، ويهم المسلمون بالحركه ظنا ان النبي يريد ان يخرج للصلاة فيومىء بيده الشريفه ان اتموا الصلاة ، يرخي الستارة ويدخل في مرحلة الاحتضار ، وتصعد روحه الطاهره وقت الضحى من ذلك اليوم بعد ان القى على صحبه نظرة الوداع .
امشي في طرقات المدينة المنورة فاستذكر احد الصحابة الذي كان يذرع طرقات المدينة ذهابا وايابا بعد وفاة النبي على غير هدى ، ولما سئل عن سبب ذلك اجاب ( لعل الخطوة توافق الخطوه) انه يتحسس موضعا ربما ما زال يحمل أثرا من خطواته صلى الله عليه وسلم .
في افراحنا ،،، نتغنى بالصلاة عليه ، وفي احزاننا نفزع بعد الله اليه ، في صبيحة الثالث عشر من شباط عام 1991 ، تم قصف ملجأ العامرية في بغداد من قبل طائرات امريكا فقتل المئات من النساء والاطفال والشيوخ ،، يعتصر الحزن القلوب ،، نستيقظ على صوت المنشد وهو يشدو بحزن :
اغثنا ادركنا يا رسول الله ، اغثنا ادركنا يا منى عيني ،، ادركنا يا حبيب الله .
نغتاظ من عدونا في نكسة حزيران فنهتف ملء الحناجر :
خيبر خيبر يا يهود ،، جيش محمد سوف يعود .
انه النبي والهادي والمعلم ، لكنا للاسف نحبه بقلوبنا اكثر من عقولنا ، ولو ادركنا معنى التشبث بسنته وتعاليمه ما كنا وصلنا الى هذا الدرك من الذل والهوان .
في موسم الهجرة الى الحبيب يا لفقر كلماتي امام عظمته ، ويا خجل حروفي من هيبته ، ويا خوفي من نظرة عتاب من عينيه يوم تتطاير الصحف فوق الرؤوس .
يا صاحب القبر المنير بيثرب يا منتهى أملي وغاية مطلبي
يا من به في النائبات توسلي وإليه من كل الحوادث مهربي
يا من نرجيه لكشف عظيمة ولحل عقد ملتو متصعب
يا غوث من في الخافقين وغيثهم وربيعهم في كل عام مجدب
يا رحمة الدنيا وعصمة أهلها وأمان كل مشرق ومغرب