لم أدرك ما أواجهه، من حروب وجروح، لمجرد نوعي البيولوجي، بسبب التحرشات في الشارع ولا محدودية اختياراتي الاجتماعية، ولا بسبب ما وجدت عليه المجتمع في مسائل العلاقات والزواج من تسليع وقهر للمرأة، ولا حتى في الإهانات المستمرة للعاملات في مجالات مثل الفن والكتابة، ولا في تلك المواجهات اليومية بخصوص أبسط الحريات الشخصية؛ كل ذلك ممكن أن تواجهه وتتحداه بإصرار بديهي جدا وإنساني وتقبُل للخسائر والفواتير التي لحسن الحظ مازلتُ أستطيع أن أسددها، كيف؟ من خلال العمل. وهتسبونا نشتغل؟
العمل، هو حلبة الصراع الدامية، التي استوعبتُ فيها تماما، أنني للأسف الشديد، مضطرة أفاجأك: المجتمع يحارب المرأة.
صدمتي كانت داخل محاضرة في سنتي الرابعة من كلية الطب، محاضرة أنف وأذن وحنجرة، إذ في وسط الشرح، يحدثنا المُحاضِر بنبرة الأب الناصح عن فرص التخصص داخل نفس القسم، ثم يخبرنا بصوت القاض الصارم: إحنا ما بنعيّنش حريم.
وقع قلمي و”ورميت الورد طفيت الشمع ياحبيبي” وارتعشتْ أطرافي، وفقدتُ القدرة على تحديد الزمان والمكان إثر الصدمة، حريم؟ _ثكلتك أمك. أنف وأذن؟ ومحاضرة؟ اكملتُ دراستي بعد هذه الصدمة، حياتي استمرت الحمدلله ولم أعرف كيف سمعتُ هذا الكلام من أستاذ جامعي في سنة الثورة 2011…! لكن ألف مبروك. هناك طبيبة الآن معيّنة في القسم بعد رفع قضايا عديدة ووقفات احتجاجية، وهناك العديد من الأساتذة المحترمين في نفس الكلية، ومنهم نساء فائقات في المادة العلمية، مازلن بالنسبة لي نماذج عظيمة، والكثير من الذكريات الطيبة خلال فترة دراستي، التي لم تُنسِني هذا الكلام أبدا.
ومثل الكثير من المصريين، فُطِرتُ على مشاعر السخرية، تجاه كثير من منظمات حقوق المرأة، لا بسبب اللغة التي يستخدمنها، كمحاربات أو كما تصوّرهن الأفلام سخفا: مسترجلات لا يرغبن إلا في التدخين على الملأ، بل لأن تلك الكيانات؛ لا تفكك أسباب وأدوات صراعها، ولا تعترف بإمكانياتها، ولا تُصرِّح برغبتها الإنسانية في التعايش، بل هي ببساطة، تحجٍّم نفسها في قالب النوع: مرأة، فيمنيست، ثورة البنات، ضحايا المجتمع الذكوري. وتبدأ صراعًا فوق الصراع الأساسي؛ صراعٌ ينطلق من هزيمة افترضتها وقررتها وارتضت بها. هي لا تحل ولا تربط، ولا تقدم للمرأة إلا مزيدًا من البؤس والسخرية والوضع المثير للشفقة، والمستقطِب للهزيمة وتجريح الأنوثة أو ماتبقى منها. فلم أشارك في تلك الفعاليات على رغم من تماثلي معهم قلبًا وقالبًا ظاهريًا وجوهريًا.
وهذا المقال ليس لنقد تلك الكيانات، هي تقول أن المجتمع “معفن وذكوري”، ولا نريد أن نسمعها، نصحو وننام على المجتمع الذكوري، والمجتمع “عارف” إنه ذكوري، ويطبّق ذلك في المحاكم والأقسام والمدارس و المستشفيات وفي الأوتوبيس، ولا يفرق معه “ببصلة” المجلس القومي لحقوق المرأة أو غيره، والنساء المحاربات في تلك المجالات التي يحاولن الوصول لحقوق النساء الضائعة، بالقانون والتنظيم والعمل، يُضربن من المجتمع “عادي جدا”.
هذا المقال أيضا، ليس عن قولبة المرأة في دور الضحية، فالذات الحرة، بغض النظر عن تكوينها الجسدي، تخوض معركتها، ولا يحِدُها مجتمع بعينه؛ فلست قلقة على النوع. هناك مجتمعات، غير ذلك المجتمع، قد تخلصت من مظاهر القرف والعنف ضد المرأة. تعيش أحسن منك فتحترم المرأة وتحترم المرأة فتعيش أحسن منك. فمجال الحديث هنا ليس وجوديا، عن أصل النوع أو طبيعته. كما أن هناك نساء كثيرات، يخمشن ويضربن وينتصرن ويسافرن ويطالبن بحقوقهن وتتعين طبيبة في قسم الأنف والأذن والحنجرة في مستشفى أسيوط الجامعي…… فلا صحة لشمولية نظرية الضحية حتى وإن كانت نسبة الضحايا أعلى. لكن تعالوا هنا: ألم نكتف من الدماء والشهداء والضحايا بعد؟
لذلك، ربما هذا المقال عن القلق على الأتوبيس أو المجتمع، الأتوبيس الذي يُفعَّل قوانين ومظاهر ظالمة ضد المرأة، مُدعيا أنه يحافظ عليها وعلى نفسه، بينما لا نجد من نفسه هذه، إلا خرابا وضياعا، ثم يأتي يشتكي ويبكي، في ذات الوقت، لا يريد أن يتعايش أو يستبدل الظلم والعسَف، ويغلق مجال دورانه على: فشل، هزيمة، تدمير، ضرب الأقلية، ظلم، فشل، هزيمة، بكاء. ماهو أشبه بالنكوص والأداء الطفولي شديد الرداءة، كان من المنبع، سببه انهيار مؤسسات العمل.
العمل، هو حلبة الصراع الدامية، التي استوعبتُ فيها تماما ، إن للأسف الشديد، مضطرة أن أفاجئك: المجتمع يحارب المرأة.
كيف يتصل فساد مؤسسات العمل مباشرةً بقهر المرأة؟
_لا يوجد معيار للنجاح. والإيمان بالفساد وبقوته ضد الموهبة والمجهود يجعل كل الطرق، تؤدي إلى الفشل.
_ غياب المعيار يتسبب في شيوع قاعدة: النماذج الناجحة إما فردية تتكبد خسائر ومجهودات كبيرة وإما بطرق غير مشروعة.
_حالة اللاعمل، يتبعها اتهام لأي نجاح بالفساد أو الدعارة . ( اتهام الدعارة الاتهام الجاهز ناحية النساء لسلبها حريتها وقدرتها على التحقق)
_ حالة تبادل الاتهامات تؤدي إلى تضييق الحريات الشخصية والاجتماعية. ويفرض ذلك علاقات قائمة على العبودية والهزيمة النفسية، بما فيها أهم علاقة، علاقة الرجل والمرأة.
_ كل ماسبق يؤدي إلى: عدم الاحساس بالأمان وتحفز الأطراف تجاه بعضها، مزيد من العنف.
_ يظهر العنف في زيادة نسبة الجرائم والسرقة، وبالأخص هنا: جرائم التحرش والاعتداء الجنسي والبدني ناحية المرأة، التي سجلت مؤخرا أعلى الأرقام.
وأذكر هنا، القول الشهير، إن اردت أن تعرف مدى حضارة أمة انظر كيف يعاملون نساءهم. و إن اردت أن تعرف حال مصر، انزل الشارع بميكروفون وكاميرا، اسأل أحد المارة، فليكن: رجل، كبير في السن، مُرهق وتَعِب. اسأله عن قضية المرأة، سيخبرك بطلاقة دون أي ورع: بلا مرأة بلا خرا، أنا عايز أتكلم في الأتوبيس.
حدث ذلك بالفعل، ونُشر الفيديو على موقع يوتيوب، وربما كان ذلك الرجل، هو أكثر الناس فهما لقضية المرأة التي يعرفها، إذ أنه لم يرد أن يتكلم في نتيجة أو ظاهرة، يريد أن يتكلم عن الجذر، المصدر نفسه: الأتوبيس. الأتوبيس المزدحم، الأتوبيس الذي لا يوجد فيه مكان حتى لرائحة العرق، والمرأة التي يسأل عنها المذيع في نظره، ليست ابنته أو زوجته التي يعيش بعقد الذنب تجاهها، حيث لا يستطيع أن يوفر لا لنفسه ولا لها؛ مقتضيات الحياة الأساسية. المرأة التي يسأل عنها المذيع في نظره هي مجرد وحش جميل محظوظ يظهر على الشاشة باحثا عن امتيازات إضافية بينما هو لا يجد مكانا في أتوبيس يحمله إلى حيث تطلع عينه. هو لا يعرف شيئا عن تماس حقوقه مع حقوقها، فعماه النفسي وكراهيته للأنثى والحرية، هي نقطة ضعفه التي يتكيء عليها الفساد ليستمر في تسليب الجميع من كل حق.
لا أعتقد إننا نستطيع أن نجد حلولا لا لمظلومات ولا لمقهورات، أو حتى سلام لمن تمتلك وسائل الحياة دون أن يتم محاربتها نفسيا وماديا بكافة الطرق والوسائل، إلا بالتوازي مع حل مشكلة الأتوبيس، لأن كلما زادت زحمة الأتوبيس كلما زادت نسبة اصابتها بفيروس التحرش. وهذا ليس ترتيب أولويات، لكنه ببساطة خلخلة أكثر نقطة موجِعة في الدائرة المفرغة.
ولكي يتوقف الحطام الإنساني، وهو يودِع الحياة بكلمة حق، عن تمثيل المرأة بالخراء، يجب ألا نصنع منه حطاما، هو الآخر.