أكره نهايات هذا الشهر التي تذركني بفراق والدي الطيب ، ذلك الرجل الاسمر القصير القامة الذي لم يتجاوز التاسعة و الخمسين سنة حين ما وافته المنية ، أذكر أني حينها لم أستوعب الموضوع .. كنت أشاهد الهلع أمامي و البكاء و النديب و النقاش مع الطبيب الذي قدم على الساعة الثامنة صباحا ليقول لأمي :" البركة فيكم" .
كان يوم جمعة صباحا و كنت أنا نائمة في فراشي الدافئ بعد قضاء ليلة مسامرة مع أبي الذي كنت أشاركه "الكارته" و الرامي " و أناقشه في ما يخص مباريات كرة القدم .. فأنا من مشجعي النادي الإفريقي و أبي من أوفياء الملعب التونسي أو كما يحب أم يسميها البقلاوة .. و يغني من أجل فريقها :" إيه البقلاوه الله الله" .. و لا يتمالك نفسه إذا رأى في التلفاز "خالد بن يحي ، جمال الدين الإمام و حتى الصغير أنيس العياري.. ينتفض و يمتدحهم وفي بعض الأحيان يشتمهم ..
لا ريب في ذلك فهو من يكره الفرجة في المقاهي بسبب الضجيج و يجلس أمام تلفاز الصالون و يبدؤ في التعليق على المباراة . معه كنت أستغني على صوت المعلق بوغنيم لأن أبي كان يشاهد و يشرح لي أليات اللعب و أخطاء المدربين و عند الإستراحة يحدثني عن "فيراجات بكري" ( مدرجات المشجعين في السبعينات) و يدعوني لرؤية ألبوم صوره و هو في البارك ، الحديقة ، و يعطني البطاقات البريدية التي عليها صور الملعب التونسي و الصور التذكارية التي كانت تجمعه مع اللاعبين القدماء .
كنت أحب تلك الصور و أسعد لرؤيتها و أقول هل لي بأن أكون يوما مثله ؟ أغني في الملاعب و أحمل العلم و أسافر بين المدن لتشجيع فريقي المفضل ؟ كان عشق كرة القدم يجري في دمي و كان أبي هو المحفز لذلك ... قبل أن يغادرني كنت قد حدثته عن مباراة "الترجي و الإسماعلي" التي شاهدتها في شهر نوفمبر طبعا كنت في ملعب المنزه دون علم عائلتي و لكن من خلال حديثي عن الجمهور فهم أبي أنني ذهبت للملعب دون إذنه ... لكنه تعامل معي على أساس أنه صدق رواية أني سمعت المباراة من الراديو الطريف في القصة أنه قدم لي نصائح حول وسائل النقل العمومية و الطرق التي يمكن لي إتخاذها في حال ما وقع مشكل إبان المباراة.
كان رجلا أسمر ، بشوشا قليل الغضب محبوبا من البنات و النساء و من الشباب يجالس الجميع و يحب الغناء و الرقص ، معروف بفخره بتبرسق و بحبه لربوع تونس ، لقد شغل والدي كثيرا في مجال السياحة و الفندقة في سوسة و المنسيتر و جربة التي أسرت قلبه سنينا و سنين ، قفصة التي أحب فيها الرديف و تاه في جبالها ، الكاف التي يزورها كما يزور العابد معبده ، إنها الكاف التي يسميها أبي بالعالية و المزيانة ، تطاوين ، قابس و تورز التي يشد الرحال اليها في الشتاء في مهرجان الصحراء .
في كل سفر كان يتصل بنا عن طريق الهاتف و عن طريق الرسائل و البطاقات البريدية التي تحمل ذكرى المدينة التي ذهب إليها ، صوره متعددة بين الحانة و الجامع ، بين السوق و المكتبات ، بين النساء و الرجال .. كان رجلا منفتحا يحب الحياة و يحب الله ، و له رؤيته و فلسفته التي يعبر عنها ببساطة و بحب و بعمق وبثقافة عالية .
كان مولع بالصور كنجوم السينماء و يجيد التعليق على صوره كأهم الإعلاميين ، كان رجلا يعرف كيف يدون تاريخه ، في يوم كذا مع فلان كنت قد ..... أحب عباراته الجميلة التي يروي فيها قصصه دون خجل و أحب صوره وهو يرقص و هو يغني و هو يضحك صدقا لا أستطيع تذكره و هو حزين أو هو غاضب ، ربما كان يغضب لا أدري .. إنه شديد الإبتسامة و عاشق للحياة .
وفي كل مرة يسافر و يعود يحدثنا عن سفره و عن عمله و تبرسق و أولاد موسى ... علما أنه لم يعش كثيرا في الشمال الغربي بل قضى مراهقته في تونس العاصمة تحديدا في حارة السمران القديمة و رغم مرور أكثر من خمسين سنة على قدومه مع أهله لتونس لم يغير أبي لهجته الأصلية و لا عادات أكله إنه يحب الكسكسي بالكرضون كأهالي تبرسق و يحب سماع مالوف تستور و يحدثك عن جبل الرحمة و الصباط و سوق الخميس و عين جمال و كل تفاصيل الحياة اليومية هناك و كأنه لايزال يعيش هناك .
إنه سالم الميساوي من علمني من روثت منه الإنتماء للشمال الغربي التونسي ، لقد كان يقول :" نروحو لتبرسق لزيارة الجدود" يستعمل فعل انروح يعني نعود ، و العودة تحيلنا على الغربة و على الفراق ، فتبرسق وطنه و وطن أبنائه و اليها الإنتماء و لا يمكن لذك الرجل الذي عشق الترحال أن ينتسب لمكان آخر خلاف جبل تبرسق . فمنذ متى ينسى أبناء الجبال وطنهم ؟ رغم إبتعاد العاصمة تونس عن تبرسق ب100 كلم إلا أن أبي كان يحملني بحديثه إليها ، لقد فهمت السلامية و الطرق و تاريخ نوميديا و الحنايا و عين الجمال و قصص الأندلسين الذي سكنوا تبرسق قبل الذهاب اليها ... لقد حفظت تاريخها قبل أن أزورها ...
روايات أبي عن تبرسق كانت محل فخر و متعة لي ، لقد كنت أرويها لأصدقائي في المدرسة إذا ما سألني أحدهم إنت من وين ؟ و كنت أكتب عنها في فروض التعبير الكتابي ، إنها ذكريات أبي و أحلامه التي طنت أشاطرها معه بكل تفاصيلها و بكل أغانيها ... لكل حكاية أغنية و مثال و رونق و شوق و روح للوطن ... هزي حرامك و خمرك عالوشمتك هبلتني ... ريم الفيالة يا خاوية العبود ... مرض الهوى قتالة و المرض الهوى زاد عليا ... و تتعالى ضحكاته إذا ما تغنى بها و تدمع عينيه إذا حاولت أن أغنيها ...
فارقنني أبي و لم تفارقني تلك الأغانني و صرت أنا التي تدمع عينها إذا ما غنينتها و يشح صوتي إذا ما ذكرت تبرسق ، كبرت و كبر معي حلم العودة للوطن و لقاء أبي هناك ... فأنا أحس روحه في مقبرة جبل الرحمة لا في مقبرة الجلاز . أحس روحه في السمران ذلك المتوقع في باردو و لا أرى روحه في بيتنا الحالي الموجود في الضاحية الجنوبية بتونس .
فارقني والدي و فارقت أنا بدوري عشق كرة القدم و لم ألامس بعده الكارطه و لم أجد من يروي لي" قصص علي ولد السلطان و الفلاحة " ، غادرني فجأة تاركا ورائه ذكريات وطن عرفته من خلال كلماته و الأغاني التي سمعتها منه . غادر و أنا لم أبلغ بعد السادسة عشر ... ومنذ ذلك الحين فهمت أن الرجل يمكن أن يكون مثل الحلم ...ذكري جميلة نحملها في داخلنا . فحضور والدي غدى ذكرى و بعض الصور و كثير من الحب ، منذ عشر سنوات تعودت أنا و أمي العيش بدون رجل .
أنا شخصيا أجد إحراج إذا ما سألني أحدهم ما معنى رجل ؟ كيف أجيب ؟ و هل سيكون ردي مقنع ؟ فأنا أحمل أبي ذكرى و صورة للوطن ... و أنا كبرت بأم كانت هي الحضن و الوطن رغم أنها لا تغني هزي حرامك و خمرك لكنها شاركتنا حب تبرسق ...
كيف أرد و هل ذكريات الوطن و اللعب و إبتسامة أبي و حضنه و قبلاته و المسامرة معه كافية لتجيب عن سؤال : ماهو الرجل ؟
و ثم هل الرجل ذكرى وطن ؟ أم هو ذلك الذي يسعد بنجاحاتك و يفخر بك أمام الملأ ؟ أليس هو الذي يستقبلك في محطة القطار في حال ما عدتي متأخرة ؟ اليس هو الذي يذهب معك للمدرسة الثانوية في حال غيابك ؟ هو الذي يشغل مكانا ما في كل بيت في كل ركن ، حضوره أعمق من صورة ... أرى أن الحديث عن غيابه قد يساعدني على الإجابة على ذلك السؤال المحرج ...
ذلك السؤال الذي أرد عليه بكل حب و رومنسية و بأغاني جبلية لأن الحديث سيدور عن أبي و عن وطني ... من أجل ذلك أكره ديمسبر الذي يتزامن مع ذكرى فراق أول الرجل في حياتي ...أبي وو جه الوطن .