منذ بداية عقد التّسعينات من القرن الماضي برزت في العالم العربي إحدى أهم الظّواهر الثقافية، هذه الظاهرة تمثّلت بولادة موجة جديدة من كاتبات القصّة القصيرة والرّواية. وقد استطاعت رموز هذه الموجة أن تثبّت أقدامها بشكل راسخ في الوسط الثقافي الإبداعي، وأن ترفد النتاج القصصي والروائي بأعمال متميّزة. هذه الظاهرة لم يقابلها على صعيد الكتابة الشعرية النِّسوية شيء يذكر، إلاّ باستثناءات قليلة، فقد بدت الولادات الشعرية في هذا المجال متعسّرة ومربكَة في الغالب، ولم تؤشّر ببصمة ما كما هو الحال عند القاصّات والروائيّات. ولو حاولنا أن نستقرئ هذه الحالة فإنّنا سنجد أنفسنا مضطرّين إلى تأمّل الخريطة الشعرية العربية بشكل عام، وموقع كتابة المرأة على هذه الخريطة بشكل خاص.
طبعاً ينبغي علينا في البداية أن نشير إلى انتفاء الفوارق بين نتاج المرأة ونتاج الرّجل فيما يتعلّق بجنس الكاتب، خاصّة وأنّ علم النّفس الحديث حلّ هذه القضيّة ودرسها دراسة عميقة. إنّ كلّاً من المركّب الذّكوري والمركّب الأنثوي موجودان لدى المرأة الكاتبة والرّجل الكاتب بشكل عام. فالرجل له ( أنيماه ) الأنثوي، وفي الوقت نفسه المرأة لها ( أنيموسها ) الذّكوري. وفيما يخصّ الإبداع فإنّه يصدر عن الجانب الأنثوي في الحالتين.
مع انطلاق حركة الحداثة الشعرية العربية في نهايات الأربعينات من القرن الماضي لم تشكّل مساهمات المرأة العربية في هذه الحركة سوى جزء ضئيل. لقد كان معظم ما تمّ إنجازه من صنع الشعراء الرّجال الذين أخذوا على عاتقهم مهمّة تطوير الشّعرية العربية، وربطها بفضائها الإنساني. لقد ظهر هناك السّيّاب وعبد الوهّاب البياتي وأدونيس وصلاح عبد الصّبور وأحمد عبد المعطي حجازي ثمّ سعدي يوسف ومحمود درويش إلى جانب أسماء كثيرة مهمّة. على صعيد الشعر الذي تكتبه المرأة لم يظهر سوى نازك الملائكة وفدوى طوقان، ونستطيع أن نقول إنّ شعر المرأة كان بمثابة ملحق صغير في كتاب الشعر العربي. لقد كان هذا الشعر خافتاً وخجولاً ويرفرف بأجنحة ضعيفة نسبيّاً، كما أنّه لم يلج المناطق الخطرة في الكتابة، وظلّ مشغولاً بالعاديّ والمألوف من القضايا. ما انطبق على مرحلة الرّوّاد ينطبق على المراحل التّالية، حيث نشاهد ظهور عدد كبير من أسماء الشعراء الرجال في كلّ مرّة، وبروز عدد قليل من الشاعرات.
في العقدين الأخيرين نلاحظ هناك ازدياداً نسبيّاً في عدد الشاعرات العربيات، ولكنّ مثل هذه الزّيادة تظلّ في الحدود الدّنيا مقارنةً بالزّيادة الكبيرة عند الشعراء الرّجال. أمّا بالنّسبة إلى القيمة الفنيّة لهذه الشعرية التي تنجزها المرأة فتظلّ دون المطلوب، إذ إنّها في الغالب تتحرّك حركة طاوسيّة ذات ملمح مسرحي، ولا تهتمّ بالتّأمّل والابتكار والإضافة. إنّنا لو أردنا أن نصنّف القصائد التي تكتبها المرأة العربية اليوم لوجدنا أنّها تندرج في الأنواع الثلاثة التّالية:
* النّوع الأوّل: وهو نوع نمطي من القصائد، ويقف على طرف الشعر، ويمتلئ بالأنين والشّكوى اللذين يعكسان في الواقع حالة المرارة التي تعيشها المرأة العربية. القصائد المكتوبة هنا قصائد تستجدي الحريّة الغائبة للمرأة بدل أن تصنعها. وبسبب ذلك تنغلق هذه القصائد على نفسها، وتدور في الموضوعة الواحدة التي تعالجها، مما يجعلها عرضة للفقر والتّكرار.
* النّوع الثاني: وهو نوع يتّخذ من التّمرّد والقطيعة مع الرّجل العنوان الأبرز لمظهره العام، غير أنّ غالبية ما يُكتَب في هذا المجال هو من ذلك الطراز الهشّ من الشعر، حتى ولو كان يتقنّع بعبارات التّحرّر البرّاقة. إنّ أغلب قصائد هذا النوع مكتظ بالسّقطات الفنية، ويقع في خانة التّقشّف اللغوي والثّرثرة التي لا طائل وراءها سوى إظهار العضلات. أحياناً تلجأ بعض الشاعرات ممن يكتبن هذا النّمط من الشعر إلى تبهير قصائدهنّ بشيء من الجنس، وكأنّهنّ يعتقدن أنّهنّ بهذه اللعبة يستطعن أن يكسبن القارئ.
* النّوع الثالث: وهو النّوع الحقيقي والمهمّ في كتابة المرأة، وذلك على الرّغم من نسبته الضّئيلة في هذه الكتابة وقلّة نماذجه. شاعرات هذا النّوع هنّ من المبدعات الكبيرات الموهوبات والمثابرات، وغير المعنيّات بالمعارك الدّون كيخوتية ولا بالاستعراض. فقد أخذن على عاتقهنّ مهمّة اجتراح المعجزة، وذلك من خلال المواءمة بين إبداعهنّ العالي وبين أنوثتهنّ العظيمة. إنّهنّ يحفرن بأناة أرض الكتابة، ويعتنقن الفنّ كمخلّص وحيد ليس لهنّ فقط ولكن للإنسان. قد تكون صاحبات هذا النّوع من الشعر محارَبات أو مهمَّشات أمام ذلك النوع الاستعراضي الذي تحدّثنا عنه، ولكنّهنّ يكتبن ويشقين في الكتابة كعاملات جسورات في منجم اسمه الشعر.
في الأوساط الثقافية العربية نعثر على هذه الأنواع الثلاثة من النّصوص الشعرية التي تنتجها المرأة، حيث تتفاوت هذه النّصوص في خطاباتها ومستوياتها. ولو أردنا أن نعقد مقارنة بينها لوجدنا أنّ النّوعين الأوّلين يحتلاّن المكانة الأولى على صعيد الاهتمام الإعلامي، بينما النوع الثالث ينزوي في حجرات التهميش والإقصاء. ثمّة كتابة كثيرة مبهرجة يُروَّج لها، أشبه بموديلات الأزياء التي تركّز على عري الصّدر والكتفين يُلَفّ بها الكلام المخشوشن اليابس، وثمّة كتابة قليلة ولكنّها دافئة الأنفاس تهبّ علينا فتلهب الروح وتُرقِّص الحجر. من الأسماء المهمّة التي تحضر في البال، والممثّلة للتيّار الثالث على المستوى العربي يمكن أن أختار اسمين هما: زليخة أبو ريشة، وعائشة أرناؤوط. فالأولى متصوّفة في محراب الكلمات وتكتب قصيدتها كما لو كانت تصعد معراج الشعر، والثانية تحتفل بالعالم، ربّما بالخراب أيضاً. ويشكّل الشّعر لديها وطنها الأوّل والأخير.
لعلّ مثل هذا الاضطراب والإرباك الذي يحدث على صعيد شعر المرأة متأثّر إلى حدٍّ بعيد بطبيعة الوضع المضطرب الذي تعيشه المرأة العربية. زمان طويل مرّ عليها، وهي لا تزال تنوء تحت ثقل قيودها الفادحة! ولعلّ القصيدة أن تكون المرآة الحادّة لهذا الجسد المقهور المتوتّر الذي يحلم بالأمطار الشّرسة والنّيران اللاهبة.