عندما زرت العراق عام 2003 بعد غياب طويل، اُتيحت لي الفرصة ان ازور صديقا قديما لي في البنك المركزي ببغداد، وكم كان سروري عظيما ان ارى معظم من يقوم بالأعمال الحسابية موظفات عراقيات. كلهن يحملن شهادات جامعية. تأملت المنظر الجميل من الوجوه والقامات واللغة، كان سبب غبطتي مشهد المرأة العراقية وهي تتطور و تجاري زميلاتها في الغرب بمشاركة الرجل بالخدمات الاجتماعية للمجتمع الحديث.
لم اجد في واحدة منهن ذلك التبرج الذي نعرفه في كثير من نساء المنازل. واعني التبرج في طلاء الوجه والتبرج في الملابس التي تجعل المرأة عارية وهي كاسية، والتبرج في الكلمة والأيماءة، اذ كن يؤدين اعمالهن بمهنية عالية لكن في وقار وجمال .. وبينما كنت اتأمل المشهد المرموق نقر في ذهني سؤال : لماذا لا يتبرجن وهن جميعهن في سن الشباب ؟
ووجدت الجواب.
ان المرأة عندما تعمل خارج منزلها تجد الكرامة وتجد الاستقلال وتجد الامل والثقة. فهي لاتقلق على مستقبلها ولا تخشى ان يفوتها زواج وهي تعرف ان كرامتها وعيشها وسعادتها لا تتوقف على محاسنها الجسدية فقط، اذ ان لها محاسن اخرى هي ذكاؤها ومهارتها وانسانيتها التي تنمو جميعها بالعمل. هذا العمل الذي يربيها وينضجها ويجعلها – تكبر – وتحيا الحياة الفنية الفلسفية في الحياة.
ان كثيرا من دعاة الفعل الماضي واحترام التقاليد يتهمون المرأة العصرية بالتبرج. وهم لا يسأمون القول المكرر بان المكان الاول للمرأة هو البيت وان وظيفة المرأة الأولى هي الزواج، كأن هؤلاء السيدات والآنسات اللائي رايتهن في دائرة البنك ليست لهن بيوت او كأنهن لن يتزوجن.
اما عن تهمة التبرج فانها الصقت بالفتاة التي تطمح الى الزواج والبيت دون اي نشاط خارجهما، من هؤلاء العاملات في خدمة الدولة. ذلك ان الفتاة عندما تعرف انه ليس لها كرامة او عيش الا بمقدار ما عندها من جمال جسدي، تحتاج الى ان ترصد كل وقتها واهتمامها لزيادة محاسنها التي تغري وتجذب حتى يتحقق لها الزواج. فاذا تحقق فانها تحتاج ايضا الى الاسراف في العناية بمحاسنها ومفاتنها حتى تستبقي زوجها.
ثم هي لهذا الموقف السيكولوجي تنسى القيم الاجتماعية الأيثارية ولا تعود تبالي غير القيم الأنانية اي البيت والزوج. بل حتى حين تجد من زوجها اتجاهات اجتماعية مثل خدمة الوطن او العناية بالمذاهب والمبادئ او التضحية بشئ من ماله الخاص لأجل الخير العام. حيث انها لا تجد قيمة او معنى لهذه الاشياء، طبقا لمستوى انسانيتها. فهي تجره الى الأرض اذا احست منه اية رغبة في الارتفاع الى السماء.
انها لاتعرف غيره ترسي عليه قواعدها في الحياة، فهي تستمسك به وتتبرج له وتعد نفسها كل يوم لان تكون انثى اكثر من ان تكون انسانا ... ولكن ليس هذا شأن الفتاة التي احترفت حرفة واستقلت وعاشت منها. فانها تفكر في الزواج كما يفكر فيه الرجل باعتبار انه شركة شريفة يراد منها سعادة الزوجين وليس بأعتبار انه وسيلة للعيش من كد الزوج وتعبه، اذ هي تستطيع ان تكد وتتعب مثله وتعيش.
ولذلك ايضا تعد الفتاة التي عملت وكسبت من عملها قبل الزواج تعد خير الزوجات عندما تتزوج. ليس فقط لانها لا ترصد كل وقتها لزيادة محاسنها التي تغري بها زوجها حتى لا يلتفت الى غيرها وانما لأن اختباراتها السابقة في عملها الحر او وظيفتها الحكومية تجعلها تفهم المجتمع الذي تعيش فيه وتحملها على الاّ تقصر نشاطها على البيت اذ هي لاتنسى هذا المجتمع بجميع مسؤلياته ومسراته، ثم هي لأنها تفهم هذا المجتمع وتفهم قيمة العمل ومسؤلياته تعرف مسؤليات زوجها وتفطن لمتاعبه وهمومه.
صحيح ان الزوج يجد التخاضع من الزوجة التي لم تحترف حرفة ولم تكسب المال ولكن الحياة الزوجية السليمة في نظر الرجل السليم هي حياة التكافؤ والزمالة وليست حياة السيادة والكبرياء.
ولست انكر ان هناك شبابا يخشون الزواج من فتاة جامعية متعلمة، ومرجع هذا، انهم يجدون في تعليمها مهانة لكرامتهم، اذ قد تمتاز هي على الزوج بثقافة عالية. ولهذا يؤثرون السذاجة على المعرفة.
فاذا كان الزوج جاهلا والزوجة متعلمة، خيرا من زوجين جاهلين. والرجل الذي ينشد زوجة ساذجة سوف يعكس اثره السيء في ادارة البيت وتربية الابناء.
يجب ان يعرف الرجل المرأة مثلما يجب ان تعرف المرأة الرجل. ولا سبيل لهذه المعرفة سوى الاختلاط. ان الانفصال يجعل كلا من الشاب والفتاة يشطح في خيالات بعيدة عن الواقع، فاذا تم الزواج فان الحقائق سوف تطوف على السطح. وقد يحطمها الخيال السابق فلا يسعد الزواج ولا يدوم.
وفن الحب يحتاج الى ان تبقى صورة المرأة ماثلة في ذهن الرجل وصورة الرجل ماثلة في ذهن المرأة منذ المهد الى اللحد. وعدم الاختلاط بينهما قد يحدث شذوذا، وقد لا يبرأ هذا الشذوذ طيلة العمر.
لكن هناك ما هو دون الشذوذ مما يتعس الحياة الزوجية. فان الانفصال بين الجنسين يجعلنا لا نفهم الطراز الذي نحبه من النساء او الرجال، وعندئذ تنزوج للزواج فقط وليس لما ننتظره في الزواج من سعادة وهناء. حيث تنكشف لنا الحقائق بعد الزواج حين نجد اننا تزوجنا فتاة (اوفتى) من طراز آخر غير ما كنا نحب ان نتزوج.
ان مجتمعنا الانفصالي قد حطّم سعادتنا واخّر تربيتنا الانسانية والاجتماعية. وما دامت الدولة قد سلمت بتوظيف المرأة وسمحت بالاختلاط في دوائرها. فهذا خير تمهيد لأيجاد مجتمع مختلط مهذب.
قد يقول البعض بان الفتاة التي تعلمت في الجامعة قد حصلت بما يهيئها للزواج السعيد. ولكن هذا خطأ، لأن هذه الفتاة قد تعلمت من الكتب وهي لن تتزوج الكتاب انما تتزوج انسانا، فيجب ان تعرف هذا الانسان بالاختلاط الاجتماعي قبل الزواج واحسن انواع الاختلاط هو تلك الزمالة التي تجدها وقت عملها مع الرجال. اذ هي اشرف زمالة تنطوي على مسؤليات الخدمة والامانة الاجتماعية.
كثيرا ما نجد البذائة والوقاحة في اولئك الشبان الذين لم يزاملوا الفتيات ولم يختلطوا بهن، هذا الاختلاط الذي يربي في نفوسهم الضمير الاجتماعي ويقسرهم على اتخاذ السلوك القويم والاسلوب المهذب. فهم كارهون للتطور الثقافي مؤكدين ان المرأة لم تخلق الاّ للمنزل فقط.
ماهي الغاية من الزواج والبت ؟ ... اليست هي سعادة الزوجين وايضا انجاب الاطفال وتربيتهم ؟ . اذا كان هذا هو الشأن فان المرأة المتعلمة التي مارست عملا منتجا قبل الزواج والتي اختلطت بالمجتمع في مسؤلياته المختلفة، هذه المرأة هي خير من يربي الاطفال اذ هي تعرف المناخ الاجتماعي الذي سيعيشون فيه. هي تعرفه ولا تجهله كالمرأة التي لم تؤد خدمة اجتماعية قبل الزواج.