يمكن القول أن فكرة المجال العام ولدت في قلب الحداثة السياسية حيث أن مفهوم المجال العام يعتبر أحد فروع الفكر الحديث الذي توجه لتأسيس مجتمعات ديمقراطية تقوم على أساس تداول السلطة وحرية الفكر والتعبير والتنظيم. ويمكننا فهم المجال العام كحيز يتم فيه تفعيل المشاركة حيث يعتبر الفضاء الذي يجتمع فيه الأفراد والمجموعات لمناقشة الأمور ذات أهمية بالنسبة لهم، وبالتالي فيمكن اعتباره المساحة الرئيسية التي يتشكل فيها الرأي العام المكون من فصائل وآراء عدة. بمعنى آخر، من المفترض أن يكون المجال العام مجالا حرا وغير مقصور على فصيل واحد، بل من المفترض أن يكون مكانا للتجمعات البشرية وللمشاركة الجماعية حيث تتساوى حقوق وواجبات المواطنة السياسية والاجتماعية. ولكن في الوقت نفسه لا يمكن فهم دينامكية المجال العام إلا بفهم مجالين آخرين وهما مجال السلطة العامة والمجال الخاص. فالتحركات في المجال العام تتحكم فيها قوانين الدولة العامة والتي مفترض لها أن تعمل على ضمان أمن وسلامة الأفراد المشاركين فيه دون التدخل في شئونهم الخاصة.
ومن ناحية أخرى، يقوم المجال العام على أفراد ومجموعات يتشكل القدر الأكبر من أنماطهم الفكرية وهياكل نظمهم القيمية في مجال آخر متصل وهو المجال الخاص. فعلى ضوء المفاهيم المتداولة، فالمجال الخاص لا يقع خارج نطاق الدولة ولا خارج حيز إبصارها ولكن تحكمه قوانين صارمة تستمد موادها من مبادئ الشريعة الإسلامية بكل ما تأتى به منظومة التشريعات تلك من تفاوت في الآراء الفقهية التابعة للمذاهب الإسلامية المختلفة. وبالتحديد يتمثل المجال الخاص في مؤسسة الأسرة والعلاقات الزوجية التي تتحكم فيهم قوانين الأحوال الشخصية والتي صارع الكثير من المشرعين والحقوقيين والحقوقيات والنسويات والناشطات عبر السنوات من أجل تغييرها وجعلها أكثر إنصافا للنساء المصريات وأكثر تمكينا لهن كمواطنات يتمتعن بكافة حقوقهن الشخصية والزوجية والدفع باستمرار لوضع قوانين تتبنى فلسفة المساواة واحترام حقوق الإنسان. ولأن المجال الخاص هو المساحة الأولية التي تتكون فيها الأنماط الفكرية والتنشئة الاجتماعية لدى الأفراد والتي تضع إطار لمعاملاتهم وخطابهم في المجال العام، إضافة إلى أنه في أغلب الأحيان، يكون المجال الرئيسي الذي تستمد منه النساء الدعم المعنوي والأسرى والذي يعد عاملا ضخما في تحديد فرصهن للعمل والنشاط خارج نطاق المنزل والأسرة، لاسيما في تحديد فرصهن في المشاركة في العمل السياسي، فيصبح المجال الخاص في هذا الضوء أحد أهم الجوانب التحليلية لفهم خبرات ومعوقات العمل السياسي لدى النساء في مصر.
وبالتالي نرى تداخل واضح بين الحيز العام والخاص على صعيد وبين المجال الخاص ومجال السلطة على صعيد أخر، ونجد أن الثلاث مساحات في حالة تفاعل مستمرة مع بعضها البعض ولا يمكن الخوض في عملية تحليلية لوضع المرأة المصرية في المجال العام إلا من خلال فهم خصائص تلك العلاقة الثلاثية.
ولكن الحالة المصرية، مثلها مثل أنظمة سلطوية أخرى، تفرض نظرة أكثر تعقيدا لنظرية المجال العام تلك بحيث تصبح أجهزة الدولة من شيمها الرئيسية التحكم في مساحات تحرك وتفاعل المواطنين والمواطنات والتي يظهر أثرها في المجالات العامة والخاصة سواء. فكما هو واضح في الحالة السياسية المصرية، تتم محاصرة المجال العام ويتم تضييق الخناق عليه. وكانت قد غابت الرغبة السياسية لدى المجموعات الإسلامية المنتخبة في خلق حوارات ومساحات أكثر انفتاحا ومساواة، في تأكيد على أحقية الفصائل السياسية المختلفة في عرض ومناقشة أفكارها وآليات عملها. وبالتالي أصبح المجال العام حكرا لفصيل واحد وتحول مسرحا للصراعات السلطوية بين فئات الشعب المختلفة التوجهات بدلا من كونه مجالا حرا تتشكل فيه النقاشات والأنشطة الفكرية والإيديولوجية المختلفة. وكما تتم محاصرة المجال العام، نجد أيضا أن قوانين المجال الخاص والتي خاضت من أجلها المجموعات والمنظمات النسوية والنسائية معارك طويلة استطاعت من خلالها تغيير بعض القوانين- والتي سيتم الإشارة إليها في سياق الورقة- أنها كانت تتعرض لهجوم واضح يهدف لتمرير خطابات تزيد من حدة التحكم في فرص المرأة في التعليم والعمل والعيش في بيئة أسرية تتساوى فيها حقوق الزوجة مع الزوج. ذلك لأن في تحقيق المساواة تلك، تستطعن النساء إيجاد قدر أكبر من الحرية للانخراط في العمل العام كمواطنات لهن حقوق ومسئوليات سياسية تجاه مجتمعاتهن. ولعل أحد أهم المداخل لفهم عملية التفاعل تلك هو من خلال فهم علاقة النساء بالمجال العام لما يتجلى من خلال دراساتها من علاقات تفاعلية بين أنماط ثقافية وتحيزات سياسية وخلافات قانونية كجزء من واقع وحراك سياسي واجتماعي تعيشه نساء هذا الوطن.
المشاركة السياسية
يمكن تعريف مبدأ المشاركة السياسية بالنشاط الذي يقوم به المواطنين والمواطنات بقصد التأثير في عملية صنع القرار الحكومي سواء كان هذا النشاط فرديا أم جماعيا، منظما أم عفويا. ويتضمن المفهوم قدرة المواطنين على التعبير العلني عن آرائهم ومواقفهم والتأثير في عملية صنع القرار إما من خلال خوض الانتخابات كمرشحات ومرشحين وتكوين النقابات والحركات بمختلف أنواعها أو من خلال انتخاب الأحزاب والأفراد للمجالس التشريعية والمحليات والنقابات وغيرها من الكيانات التمثيلية. إضافة إلي ذلك، تتبلور المشاركة السياسية حول أنشطة أخرى غير التي تم ذكرها، فأحيانا تعتبر اختيارات الأشخاص في حياتهم العامة والخاصة بمثابة التعبير عن موقف سياسي أو أيديولوجي ويجب اعتبار القدرة على هذا التعبير أيضا كأحد جوانب المشاركة السياسية في المجال العام والتي تتشكل حسب جملة من العوامل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المختلفة. تلك العوامل تساعدنا في فهم وتحليل أحد أهم معايير الحياة السياسية وهو مبدأ المواطنة وهو القائم على فكرة المساواة بين أبناء الوطن بمن فيهم من رجال ونساء بغض النظر عن العمر أو النوع أو العرق أو أي اختلافات أخرى.
ولكن بسبب تباين الفرص الاجتماعية والاقتصادية والسياسية نجد أن المواطنين ليسوا متساوون بهذا الشكل، بل تفتقد بعض الفئات الموارد الاقتصادية والمعرفية والمقومات الاجتماعية التي تساعدهم على ممارسة حقوقهم كمواطنين متساويين يمارسون اختياراتهم الشخصية والفكرية دون إرهاب أو تخويف، فالفرد لا يستطع المشاركة سياسيا إلا إذا توافرت لديه وسائل حمايته. وتعتبر العلاقات المتبادلة بين الفرد والدولة وما بين الأفراد وبعضهم البعض في المجالين الخاص والعام أحد المعايير لتحليل مستويات المواطنة والتي يحدد إطارها الدستور والقانون والأعراف الاجتماعية على حد سواء.
وانطلاقا من هذا التعريف نجد أن المرأة في مصر تتراجع عن الرجل بشكل واضح فيما يخص حقوقها السياسية المرتبطة بالمجال العام وحقوقها الشخصية في المجال الخاص. فيبدو وأن الهياكل القانونية لحقوق المواطنة قد وضعت حول نوع مجتمعي واحد ولم تتضمن حقوق تمس واقع المرأة المجتمعي بشكل خاص، فهي هياكل لا تضمن مساواة في الإمكانيات المتوفرة بين الرجال والنساء ولكنها تعبر عن منظومة علاقات اجتماعية وسياسية وجنسية ترى المرأة على هامش الحياة العامة، ونفتقد لأدلة تشير إلى الرغبة في تغيير تلك الرؤية. وربما أصبحت المشاركة النسائية في السياسة أحد أهم معالم الخريطة السياسية في مصر بعد ثورة 25 يناير، وفي تلك المشاركة -التي تمثلت في المظاهرات والانتخابات سواء كناخبات أو مرشحات، وفي العمل الأهلي والتنموي والحزبي والحركات الاجتماعية ومجموعات الضغط- ظهرت بحدة أشكال التفاوت بين المساحات المتوفرة لحرية حركة وتعبير النساء وبين المساحات المتوفرة للرجال أثناء تأديتهم الأنشطة نفسها. ولفهم واقع النساء المصريات من المشاركة في المجال العام وقدرتهن على ممارسة حقوقهن الكاملة كمواطنات، لابد من نظرة متأنية لوضع المرأة في عدة محاور رئيسية.
أولاً : حقوق المرأة في الدستور الجديد ..
لقد أولى مشروع الدستور الجديد إهتماماً خاصاً سواء في الديباجه أو في مواده بالمرأة؛ حيث أكد على أن المرأة ليست فئة من فئات المجتمع فقط، بل هي نصف المجتمع وأساس الأسرة، مشيراً إلى دورها الفعال ومشاركتها القوية بثورتي 25 يناير و30 يونية، ومن هذا المنطلق فقد منحها الدستورالحماية والرعاية وذلك بتخصيص أكثر من عشرين مادة، تعد تطوراً مهماً للتأكيد على أهمية دور المرأة في الدولة والمجتمع دون تمييز أو إقصاء، ومن جهة أخرى فإن المرأة تستفيد أيضاً من كافة مواد الدستور باعتبارها مواطناً كامل المواطنة مثل التزام الدولة بتحقيق العدالة الاجتماعية وتوفير سبل التكافل الاجتماعي بما يضمن الحياة الكريمة لجميع المواطنين رجالاً ونساءً. كما حرص الدستور الجديد على أن يضمن تلك الحقوق للمرأة على كافة الأصعدة السياسية و الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وذلك على النحو التالي :
سياسياً :
أكد الدستور على حق الإنسان المصري فى الكرامة دون تمييز بسبب الجنس أو اللون أو الدين أو الأصل أو الإعاقة وحتي الانتماء السياسي، حيث أكد الدستور على أن “تكفل الدولة تحقيق المساواة وتكافؤ الفرص بين المرأة و الرجل دون تمييز” وذلك طبقاً للمادتين 9،11، كما أكد الدستور على أن “التمييز جريمة يعاقب عليها القانون ودعا إلى إنشاء آلية لمراقبة كافة أشكال التمييز”، والمرأة هي أكثر فئات المجتمع التي عانت منه لذا ستكون أول المستفيدين من هذه المادة، وعلى صعيد المشاركة في الحياة السياسية حرص الدستور الجديد على ان تتخذ الدولة التدابير الكفيلة بضمان تمثيل المرأة تمثيلاً مناسباً فى المجالس النيابية على النحو الذي يحدده القانون، كما خصص ربع عدد المقاعد للمرأة فى المجالس المحلية وذلك طبقاً للمادة 180 أى بما يعادل 13 ألف مقعد .
اقتصاديا:
أكدت مسودة الدستور الجديد على التزام الدولة بوضع خطة قومية لمواجهة العشوائيات لتحسين نوعية الحياة وهو نص يراعي المرأة الفقيرة من سكان العشوائيات وذلك طبقاً للمادة 78 ، بينما تكفل المادة 11 حق المرأة فى تولى الوظائف العامة ووظائف الإدارة العليا فى الدولة والتعيين فى الجهات والهيئات القضائية دون تمييز ضدها، والتأكيد على المساواة فى تولى المناصب القيادية .
اجتماعيا :
طبقاً للمادة (11) من مشروع الدستور الجديد فإن الجنسية المصرية حق لمن يولد لأب مصري أو لأم مصرية وهذا يعنى إنهاء معاناة المرأة في منح أبنائها الجنسية المصرية ة، كما أكدت نفس المادة التزام الدولة بحماية المرأة ضد كل أشكال العنف، وتمكينها من التوفيق بين واجباتها فى الأسرة ومتطلبات العمل، كما أكدت مسودة الدستور في المادة (10) على ضرورة حرص الدولة على تماسك الأسرة واستقرارها وفي مقدمتها المرأة لأنها العمود الفقري لهذه الأسرة،وفي هذا الإطار أيضاً ألزم الدستور الدولة بتوفير الرعاية والحماية للأمومة والطفولة والمرأة المعيلة والمسنة والنساء الأشد احتياجاً، كما حظر مشروع الدستور الجديد كل صور العبودية والاسترقاق وكل صور الإتجار فى البشر، حيث أن القانون قد جرم جميع أشكال الإتجار بالبشر . (المادة 89) من جانب آخر نصت المادة (68) على إلزام الدولة بالعمل على توفير المعلومات من أهم النقاط التى تساعد على البحث والتعرف على مشاكل المجتمع والمرأة فى أمس الحاجة الى توفير المعلومات فلا يتم معالجة القضايا الاجتماعية بدون هذه المعلومات.
ثانياً : حقوق الطفل في دستور مصر الجديد ...
إرتباطاً أيضاً بحقوق المرأة التي كفلها الدستور حرص مشروع الدستور الجديد على إيلاء الطفل المصري اهتماما بإعتباره من الفئات الضعيفة والمهمشة وأفرد له ( المادة 80) والتي تشكل ظهيراً دستورياً لقانون الطفل رقم 126 لسنة 2008 ، حيث أدخلت فئات جديدة لم تكن مشمولة بالرعاية مثل أطفال الشوارع، ووسعت من دائرة حقوق الطفل العامل مما يحافظ على الأطفال وعلى كيان الأسرة المصرية ككل،كما كفلت الدولة طبقاً للدستور الجديد حقوق ذوي الإعاقة وتأهيلهم وإندماجهم في المجتمع ( ومنهم الطفل المعاق )، كما ألزم الدولة بضمان حق الطفل في التعليم المجاني حتى المرحلة الثانوية، و الحق في الرعاية الصحية المتكاملة، والتطعيم ضد الأمراض وحمايته من جميع أشكال العنف والإساءة، وعدم التمييز .
واستشعاراً لأهمية هذه الحقوق قدم الدستور الجديد دعماً كبيراً لحقوق الطفل وحددت مواده للمرة الأولى سن الطفل وفقاً للمواثيق الدولية ... ومنها اتفاقية الأمم المتحدة للطفل في عام 1989، وتحديدها سن الطفل بشكل صريح، حيث يقدم الدستور الجديد تعريفاً للطفل علي أنه كل من لا يبلغ سن الثامنة عشر. كانت المرأة المصرية هي فرس الرهان في الاستفتاء على نصوص الدستور الجديد الذي جري يومي 14، 15 يناير 2014. وبالفعل كان حضور المرأة في هذا الاستفتاء من الأمور التي استرعت انتباه كافة المتابعين والمراقبين له من المصريين وغيرهم. ففي مقابل ما يشاع عن عزوف الشباب عن المشاركة في التصويت على الدستور، وهو أمر تضاربت فيه التصريحات، أقبلت النساء على التصويت بأعداد كبيرة. وكان للمجلس القومي للمرأة دور كبير في تحفيز النساء على المشاركة، عن طريق الندوات التي عقدت لتعريف المرأة بحقوقها الدستورية، وهي ندوات غطت ربوع البلاد شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً، وشملت كل طوائف المرأة المصرية في الريف والحضر والبادية.
والحقيقة أن المرأة حظيت في الدستور الجديد بمكانة متميزة، بداية من ديباجة الدستور التي ذكرت “المواطنات والمواطنين”، باعتبارهم الشعب المصري الذي يعبر عن إرادته ويضع دستوره.
وقد وردت النصوص الخاصة بالمرأة في الدستور الجديد في الباب الأول الخاص بالدولة والباب الثاني الخاص بالمقومات الأساسية للمجتمع، وهو ما يؤكد وضعية المرأة التي تكون الدولة والمجتمع، ويؤكد أيضاً أن قضايا المرأة هي قضايا مجتمعية، والنهوض بالمرأة هو ارتقاء بالمجتمع، باعتبار أن المرأة تشكل نصف المجتمع وتسهم في رفاه النصف الآخر.
وفيما يلي، نتناول النصوص الخاصة بالمرأة في الدستور الجديد، من خلال القضايا التي كرستها هذه النصوص، فنقلت حقوق المرأة إلى مصاف الحقوق الدستورية التي لا يجوز لأي سلطة من سلطات الدول المساس بها.
جنسية أبناء الأم المصرية:
كان القانون المصري حتى سنة 2004 يقصر الحق في الجنسية على الطفل الذي يولد لأب مصري، فلم تكن قوانين الجنسية المصرية تعترف بحق الدم كسبب لمنح الجنسية المصرية إلا بالنسبة للأب دون الأم. وفي سنة 2004 صدر القانون رقم 154 ليساوي بين الأب المصري والأم المصرية في هذا المجال. وقد أصبح لأبناء الأم المصرية المتزوجة من غير مصري اذ ذاك حق الحصول على الجنسية المصرية بموجب نص قانوني، يمكن للسلطة التشريعية أن تعدله لاحقا في حال رغبت بذلك، لغياب الضمانة الدستورية في هذا الخصوص.
لذلك جاء دستور 2014 ليسد هذه الثغرة، ويحول حق أبناء المصرية المتزوجة من أجنبي من حق مصدره القانون إلى حق دستوري. ف”الجنسية حق لمن يولد لأب مصري أو لأم مصرية، والاعتراف القانوني به ومنحه أوراقاً رسمية تثبت بياناته الشخصية، حق يكفله القانون وينظمه”. ويتضح من هذا النص أن الحق في الجنسية لأبناء المصريين والمصريات هو حق دستوري، لا يجوز للقانون الانتقاص منه، أو أن يضع له شروطاً تقيده بالنسبة لأبناء طائفة معينة من المصريات. فالتنظيم المقصود لا يمكن أن ينتقص من أصل الحق، لكنه تنظيم لكيفية منح الأوراق الرسمية المثبتة له بما لا يمس وجوده.
المساواة بين المرأة والرجل: نصت المادة 11 من الدستور على أن ” تكفل الدولة تحقيق المساواة بين المرأة والرجل في جميع الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وفقا لأحكام الدستور”. ونصت المادة 53 على مساواة المواطنين أمام القانون، وهم متساوون في الحقوق والحريات والواجبات العامة، لا تمييز بينهم بسبب الجنس. كما ألزمت المادة 9 الدولة بتحقيق تكافؤ الفرص بين جميع المواطنين، رجالاً ونساءً، من دون تمييز. وقد أغفل دستور 2012 النص على حق المرأة فى مساواتها بالرجل في الحقوق كافة، واتخاذ التدابير الكفيلة بضمان تمثيل المرأة تمثيلا مناسبا في المجالس النيابية، وحقها في تولى الوظائف العامة والقضائية دون تمييز ضدها.
والمساواة بين المرأة والرجل التزام دستوري، في حدود أحكام الدستور التي تجعل من مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع. ومبادئ الشريعة الإسلامية تشمل أحكامها قطعية الثبوت وقطعية الدلالة. لذلك لا صحة لما يروجه البعض من أن المساواة بين المرأة والرجل في الحقوق، تعنى أن حقها فى الميراث مساو لحق الرجل في كل الأحوال، أو أنه يكون للمرأة أن تتزوج بأربعة مثل الرجل، وغير ذلك من الأباطيل التي راجت في أوساط معينة. والمساواة بين المرأة والرجل مقررة في المواثيق الدولية التي صدقت عليها مصر، ولها قوة القانون، ومنها اتفاقية القضاء على كافة أشكال التمييز ضد المرأة. وقد تحفظت مصر على بعض موادها، بألا يخل تطبيقها بأحكام الشريعة الإسلامية، إن كان فيها أصلاً ما يخل بأحكام الشريعة.
حق المرأة في التمثيل النيابي:
تعمل الدولة – وفقاً للمادة 11- على اتخاذ التدابير الكفيلة بضمان تمثيل المرأة تمثيلاً مناسبا في المجالس النيابية، على النحو الذي يحدده القانون. وكانت توجد مطالبات بأن تحدد نسبة في الدستور لتمثيل المرأة في البرلمان (كوتا)، لكن لجنة الخمسين لم تقر نسبة لأي طائفة اجتماعية لتعارض ذلك مع أسس الديمقراطية. بل إن اللجنة ألغت نسبة الـ 50% التي كانت مقررة منذ ستينيات القرن الماضي للعمال والفلاحين في البرلمان. وقد رأت أنه من غير المقبول بعد إلغاء الكوتا النص عليها بالنسبة للمرأة، حتى لا يكون ذلك مبرراً للمطالبة بنسب لفئات اجتماعية أخرى. لكن الدستور أقر نسباً محددة في المجالس المحلية دون المجالس العامة، فخصص ربع عدد المقاعد للشباب، وربعها للمرأة، على ألا تقل نسبة تمثيل العمال والفلاحين في المجالس المحلية عن خمسين بالمائة من إجمالي عدد المقاعد، وأن تتضمن تلك النسب تمثيلاً مناسباً للمسيحيين وذوي الإعاقة.
حق المرأة في تولى الوظائف العامة:
نصت المادة 11 على أن تكفل الدولة “للمرأة حقها فى تولى الوظائف العامة ووظائف الإدارة العليا فى الدولة والتعيين فى الجهات والهيئات القضائية، دون تمييز ضدها”. والجديد في هذا أن المشرع الدستوري لم يقنع بالنص العام على أن الوظائف حق للمواطنين على أساس الكفاءة، ودون محاباة أو وساطة (م 14)، فهذا النص لم يكن كافياً في الماضي لضمان حق المرأة في تولى الوظائف القضائية. أما النص الحالي، فقد نص على كفالة الدولة لحق المرأة في التعيين في الجهات والهيئات القضائية، دون تمييز ضدها. والجهات القضائية التي وردت في الدستور هي النيابة العامة والقضاء العادي ومجلس الدولة والمحكمة الدستورية العليا والقضاء العسكري، أما الهيئات القضائية، فهي النيابة الإدارية وهيئة قضايا الدولة، والمرأة تعيَّن فيها منذ نشأتها دون خلاف. أما بالنسبة الى الجهات القضائية، فقد دخلت المرأة بداية في المحكمة الدستورية العليا دخولاً رمزياً، بتعيين قاضية واحدة فيها. لكن دستور 2012 عزلها، وأمر عودتها موكول إلى الجمعية العمومية للمحكمة الدستورية العليا. والقضاء العادي اعتلته المرأة منذ سنة 2007، حيث جرى تعيين 42 قاضية من بين عضوات النيابة الإدارية وهيئة قضايا الدولة على دفعتين. لكن التجربة توقفت بعد ذلك رغم إثبات المرأة لكفاءتها وجدارتها بتولي مناصب القضاء. ولم تدخل المرأة النيابة العامة حتى تاريخه، كما لم تدخل القضاء العسكري. أما مجلس الدولة، فقد أعلن في سنة 2009 عن تعيين دفعة من خريجي وخريجات كليات الحقوق في وظيفة مندوب مساعد بالمجلس. لكن ثار خلاف حول هذا الموضوع بين المجلس الخاص للشؤون الإدارية والجمعية العمومية للمجلس، التي صوتت ضد تعيين المرأة في مجلس الدولة بنسبة وصلت إلى 87 %، ولم تعين المرأة في المجلس حتى تاريخه. وحديثاً أعلن المجلس عن طلبه دفعة جديدة للتعيين في مجلس الدولة من خريجي دفعة 2013. وعندما ذهبت الخريجات للتقدم، رفض قبول طلباتهن للتعيين، وكان ذلك بعد نفاذ الدستور الجديد، الذي يكفل حق المرأة في التعيين في الجهات القضائية، وعلى الرغم من تصريح رئيس المجلس أثناء إعداد الدستور بأن المجلس سيعين المرأة قاضية، حيث قال رئيس المجلس: “عند إقرار الدستور سيكون النص مفعلا ويفتح الباب لتعيين المرأة، ونحن في مجلس الدولة ملتزمون بأحكام الدستور والقانون، فنحن قضاة المشروعية، وعلى النساء أن يأملن خيرا”.
وهكذا يرفض مجلس الدولة، حامي الحقوق والحريات، تنفيذ نص المادة 11 من الدستور، مكرراً ذات الموقف الذي اعتنقه في سنة 2009، وكأن ثورات لم تقم فى مصر، وكأن دستوراً جديداً لم يصدر. وقد دفع هذا الموقف النساء المتقدمات للترشيح إلى تحرير محاضر إثبات حالة بأقسام الشرطة، ووجهت رئيسة المجلس القومي للمرأة خطاباً شديد اللهجة إلى مجلس الدولة، تطالبه بالالتزام بالدستور والاعتراف بحق المرأة في اعتلاء منصة القضاء الإداري، لكن المجلس رفض الرد على خطاب رئيسة المجلس، وأحاله إلى رئيس الجمهورية، بسبب لغته غير المعهودة في مخاطبة المجلس. وينذر موقف مجلس الدولة بمواجهة مؤكدة بين المجلس والمنظمات النسائية، حيث هددت رئيسة المجلس القومي للمرأة بأن مجلسها سوف يتخذ إجراءات قانونية ضد المجلس لإلزامه بتنفيذ النص الدستوري. لكن الإجراءات القانونية تعنى رفع دعاوى أمام مجلس الدولة، للطعن على قراره السلبي بالامتناع، فيكون المجلس هو الخصم والحكم. والطريق الآخر المتاح لاتخاذ إجراءات قانونية ضد المجلس هو اللجنة الأفريقية لحقوق الإنسان ولجنة الأمم المتحدة لحقوق المرأة. لذلك نأمل في أن يراجع مجلس الدولة موقفه، ويتخذ قراراً بتعيين قاضيات في المجلس، قراراً يوفق بين حقوق المرأة واستقلال القضاء واحترام الدستور الذي اعترف باستقلال المجلس واعترف في الوقت ذاته بحق المرأة في التعيين في وظائف المجلس، فضلاً عما يحققه هذا القرار من حفاظ على سمعة مصر الدولية، فاستقلال القضاء لا يحول دون خضوعه للدستور والقانون. ولنا عود إلى هذا الموضوع بعد أن تنتهي تفاعلاته لمناقشة قضية تولى المرأة القضاء من جوانبها المختلفة. جدير بالذكر أن حق المرأة في تولى الوظائف العامة أورده الدستور في المادة 11، وهذا الرقم هو ذاته رقم المادة (11) من اتفاقية القضاء على كافة أشكال التمييز ضد المرأة في ميدان العمل، وليس الأمر فيما نظن محض مصادفة. جدير بالذكر كذلك أن مفتي مصر كان قد أصدر فتوى أثناء إعداد مشروع الدستور، قرر فيها حق المرأة في تولى الوظائف العامة ووظائف القضاء من وجهة نظر الشريعة الإسلامية. وعند مواجهة أحد نواب رئيس مجلس الدولة، على الهواء مباشرة أثناء مداخلة تليفزيونية مع الإعلامية لميس الحديدي، برأي المفتى، كان رده فليقل المفتى ما يشاء. تمكين المرأة من التوفيق بين واجباتها الأسرية والتزاماتها المهنية:
تلتزم الدولة بحماية المرأة ضد كل أشكال العنف، وتكفل تمكين المرأة من التوفيق بين واجبات الأسرة ومتطلبات العمل. هذا الالتزام يضع على عاتق الدولة واجباً دستورياً محدداً، يتمثل في ضرورة مراجعة النصوص القانونية لاستكمال حماية المرأة ضد أشكال من العنف لا تشملها النصوص الحالية، مثل العنف الأسري، والعنف الاقتصادي، وزواج القاصرات، وختان الإناث، والتحرش الجنسي، والعنف القانوني الذي يشمل كل صور التمييز ضد المرأة. كما تكفل الدولة تمكين المرأة من التوفيق بين واجباتها الأسرية ومتطلبات عملها في المجتمع، وظيفية كانت أو مهنية، كي لا تكون التزاماتها الوظيفية أو المهنية على حساب واجباتها الأسرية أو العكس، عندما تكون الالتزامات الأسرية عائقاً يمنع المرأة من ممارسة وظيفتها أو مهنتها. هذا التمكين يفرض على الدولة أن توفر المرافق اللازمة لرعاية الأطفال وتقديم الخدمات المساعدة للمرأة العاملة، كما يفرض على الدولة أن تيسر للمرأة الحصول على الإجازات اللازمة للزواج والحمل والوضع ورعاية الأسرة، دون أن تكون هذه الإجازات سبباً في حرمان المرأة من كل أو بعض الدخل الذي تحصل عليه من عملها. وأخيراً تلتزم الدولة بتوفير الرعاية الاجتماعية والصحية والحماية القانونية للأمومة والطفولة والمرأة المعيلة والمسنة والنساء الأشد احتياجا في المناطق الفقيرة والعشوائية والنائية.
حقوق المرأة المصرية في الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان:
نصت المادة 93 من الدستور على التزام الدولة بالاتفاقيات والعهود والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان التي تصدق عليها مصر، وتصبح لها قوة القانون بعد نشرها وفقاً للأوضاع المقررة. هذا النص الدستوري يضفي قوة إلزامية على اتفاقيات حقوق الإنسان، التي تكون لها في مصر قوة القانون، فيما تقرره من حقوق للمرأة تلتزم بها كافة سلطات الدولة، ويكون للمرأة أن تطالب بها أمام كافة السلطات، ومنها الحقوق الواردة في اتفاقية القضاء على كافة أشكال التمييز ضد المرأة (السيداو). ونؤكد في هذا الخصوص على أن الحقوق الواردة في الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان إذا ما ارتبطت بنصوص دستورية مقابلة لها في الدستور المصري، فإنها تتمتع بالحماية المقررة للنصوص الدستورية، عندما تتعارض مع نصوص وردت في القوانين المصرية، فتكون للحقوق الواردة في الاتفاقية الدولية لحقوق الإنسان الأولوية في التطبيق على النصوص القانونية المتعارضة معها. وتوجد نصوص صريحة في القوانين المصرية تؤكد على أن الحقوق الواردة في المواثيق الدولية هي حقوق يستفيد منها المصريون والمصريات متى صارت هذه المواثيق نافذة. من ذلك نص المادة الأولى من قانون الطفل في فقرتها الثانية المضافة بالقانون رقم 126 لسنة 2008. فالفقرة الأولى من هذه المادة تقرر كفالة الدولة لحماية الطفولة والأمومة، والفقرة الثانية تنص على أن “تكفل الدولة كحد أدنى، حقوق الطفل الواردة باتفاقية حقوق الطفل وغيرها من المواثيق الدولية ذات الصلة النافذة فى مصر”. ولا يختلف الوضع- وفقا لنص المادة 93 من الدستور الجديد- بالنسبة لحقوق المرأة الواردة باتفاقية إزالة كافة أشكال التمييز ضد المرأة وغيرها من المواثيق الدولية ذات الصلة بحقوق المرأة النافذة في مصر.
وتؤكد نصوص قانونية أخرى سمو الاتفاقية الدولية على النصوص القانونية الوطنية عند التعارض. من ذلك نص المادة 26 من القانون 26 لسنة 1975 بشأن الجنسية المصرية، وهي تنص صراحة على أن “يعمل بأحكام المعاهدات والاتفاقيات الدولية الخاصة بالجنسية التي أبرمت بين مصر والدول الأجنبية ولو خالفت أحكام هذا القانون”.مما تقدم نرى أن دستور مصر 2014 أنزل المرأة المنزلة التي تليق بها، وضمن حقوقها بنصوص دستورية، لا يملك البرلمان الانتقاص منها أو تعطيلها، ولو بقانون، تحت ستار تنظيمها، فكل قانون يصدر لتنظيم ممارسة الحقوق والحريات لا يجوز له أن يقيدها بما يمس أصلها وجوهرها (م 92 من الدستور). وهكذا كان الخروج الكبير للمرأة المصرية لدعم الدستور الجديد مفهوماً، ونتمنى ألا تخذل الدولة المصرية النساء، فالحقوق لا تنفذ بالدساتير التي تقررها، بل يلزم تخصيص الإمكانات والموارد، واتخاذ الإجراءات التي تضمن تفعيل الحقوق الدستورية ووضعها موضع التنفيذ الفعلي، وهذا هو الاختبار الحقيقي الذي سوف تجتازه الدولة بعد أن تم إقرار الدستور. إن الحقوق التي أقرها الدستور المصري الجديد للمرأة غير مسبوقة في الدساتير المصرية السابقة، ولكنها لا تعد، حتى الآن، إلا حبراً على ورق، ننتظر تطبيقه من خلال تشريعات تصدر قريباً وتدابير من الدولة تكفل هذه الحقوق. ولعل الانتخابات البرلمانية والرئاسية المقبلتين أول اختبار لتطبيق هذه الحقوق