نشأت في مدينة صغيرة في محافظة أنطاليا، بتركيا، وانتقلت إلى اسطنبول منذ 16 عاما للدراسة، ومع كل سنة تمر، وكلما مشيت في الشوارع أو سافرت إلى الريف، يذكرني المجتمع بمعنى أن أكون امرأة، وصدقوني، إنه ليس أمرا سهلا.
لم أخش شيئا عندما كنت طفلة، والآن، أدرك أن أبواي ربياني وشقيقتي بحكمة، لم يفرضا علينا أية أفكار بشأن الحذر أو الخوف لكوننا فتيات، وإن كنت واثقة أنهما كانا حريصين على حمايتنا.
لكنني واثقة أيضا من أن آباء آخرين كانت لهم طرق مختلفة لحماية بناتهم، حين كنت في العاشرة، كان اللعب مع الأولاد أمرا جللا في الحي الذي نسكنه وأصابتني الحيرة عندما أخبرتني صديقتي أنها لم تعد تستطيع اللعب مع الأولاد وعندما سألت أمي عن الأمر، قالت "أنتم إخوة وأخوات، وهم لن يؤذوكي".
ومنذ ذلك الحين، وبفضل أمي، ترسخت فكرة المساواة في ذهني، لكن مخاوفها زادت مع الوقت لدرايتها بطبيعة المجتمع الذي نعيش فيه.
عندما كنت في السادسة عشر، وبعد مشاهدة مسرحية، كنت أسير مع صديقتي إلى البيت، ولاحظنا أن هناك رجل يتعقبنا، تسللنا إلى داخل إحدى البنايات واختبئنا فيها لأكثر من نصف ساعة.
عندما أصبح عمري 17 عاما، اجتزت اختبارات القبول في إحدى الجامعات في اسطنبول، وانتقلت للحياة بمفردي في أكبر مدينة في تركيا، لم تتوقف أمي عن البكاء، لكنها لم تكن دموع الفرح وظلت تقول "ماذا لو حدث لها مكروه، إنها في السابعة عشر ولا يمكنها حماية نفسها".
وتجاهلت مخاوف أمي، فلم أكن خائفة ومع الوقت، أدركت "المكروه" الذي كانت تقصده أمي، وشعرت بالثقة أنه بإمكاني حماية نفسي.
ورغم مخاوف أمي، انتقلت إلى اسطنبول، كانت المدينة شديدة الجمال، وبها الكثير من الأماكن التي يمكن استكشافها، لكن بعد مرور عام واحد، أدركت أنه بإمكاني استكشاف المدينة في ساعات النهار فقط، أو في أوقات ازدحام الشوارع، وإلا سأكون عرضة لمخاطر متنوعة.
أقل هذه المخاطر هو التحرش اللفظي، أو إطلاق آلات تنبيه السيارات، تعلمت المشي بخطوات أسرع للوصول إلى البيت بسرعة قدر الإمكان.
حتى أن الشوارع التي نسكنها لم تكن آمنة، كنت أعيش في شقة صغيرة في إحدى الضواحي التاريخية في اسطنبول أثناء فترة الدراسة، كانت الشوارع ضيقة ومظلمة، ولا تسمح بالاستمتاع بتاريخ المنطقة بعد حلول الظلام.
وعندما انتقلت إلى المنطقة، أذكر أن مجموعة من الشباب تجمعوا أمام منزلي ونادوني ببعض الكلمات، لم أنتبه إليهم، إذ كان من الأسلم تجاهل تعليقاتهم، ولم تكن لدي الجرأة لمواجهة خمسة أو ستة رجال، فابتعدت عنهم بسرعة.
وأصبحت شديدة الحذر، أدقق كثيرا في ملابسي، لكن المشكلة أن الملابس لا تحدث فرقا على الإطلاق.
كانت أوزكه جان أصلان، طالبة جامعية في العشرين من عمرها، في طريق العودة للمنزل في إحدى الحافلات، حاول السائق اغتصابها، فقاومته باستخدام زذاذ الفلفل، فطعنها بدوره حتى الموت، ووجدت آثار ضربات بقضيب حديدي على رأسها.
ثم اكتشفت الشرطة جثتها المحروقة في النهر، وألقت القبض على ثلاثة رجال تورطوا في الجريمة؛ هم السائق وأبوه وصديقه.
خرجت الكثير من النساء في مظاهرات احتجاجية على الحادث، وقابلت في إحداها فتاة محجبة من تلاميذ المدارس الثانوية، وقالت إن الشوارع علمتها الخوف.
بالنظر للماضي، رأيت أنها محقة،وأن الشوارع علمتنا الخوف والقلق والحذر وإلا، لم حملت أصلان رذاذ الفلفل في حقيبتها !.
وأثناء كتابة هذا المقال، أتذكر أشياء كنت قد نسيتها منذ زمن، وأدركت أن النساء في تركيا تعودن الانتهاك، وأصبح جزءا من الحياة اليومية، وأصبحت غريزة البقاء تدفعنا للبحث عن طرق لتجنب المخاطر قدر الإمكان.
بالنسبة لي، أرتدي الجينز طوال الوقت، ولا أستخدم أيا من أدوات التجميل، وأسير كما لو لم أكن خائفة من أي شيئ.
أصبح الانتهاك البدني واللفظي جزءا من حياتنا اليومية في الشارع، والمدرسة، والمقهى، والمنزل وهو وضع مسكوت عنه حتى الآن، وبعد أيام من حادث القتل، تشاركت النساء كثيرا من خبراتهم حول التحرش على تويتر وتم استخدام هذا الحساب لإضافة 700 ألف تغريدة خلال يومين فقط.
ووردت في المشاركات مئات القصص عن أشكال التحرش، وأدركت أن تجاربي ما هي إلا قطرة في هذا البحر من التجارب.
وإن كنت تتسائل عن رد فعل والدتي تجاه تجاربي الشخصية، فلا أعرف حتى الآن لم أخبرها أبدا بأي من تجاربي وبعد مقتل أصلان، اتصلت بها وتحدثنا في مكالمة هاتفية قصيرة عن معنى أن أكون امرأة في تركيا، فأجهشنا بالبكاء.