في كل محطات الحياة، في كل المواقف، في كل سنوات العمر، في الحب والكره، في الحقد والمغفرة؛ يقبع ذلك النداءُ الخافت الخجول والهاديء.
قد يكون الضمير، وقد يكون الروح وقد يكون العقل؛ وربما يكون كل هؤلاء، ولكن المهم أنه حين يهمس لابد أن تستمع إليه، لابد أن تُصغي لتلك الأصوات المكتومة والخجولة بنفسك والتي تقول لك: أجل هذا صحيح وهذا خطأ؛ هذا انساني وهذا لا انساني.
نحن نعتقد بأننا نحيا في العالم المادي فقط، ولكن هناك عالم داخلي بذات كل منا، عالم يحتاج إلى الإصغاء لصوته الخافت، عالم راقي ولا يفرض نفسه على قراراتك؛ ينتظر منك الإستماع فقط ولك القرار؛ حتى ولو تجاهلته لسنوات طويلة يبقى بنفسك يهمس لك وربما لن تسمعه أبداً.
وحين يصمت ذلك النداء الصامت، لابد أن تقلق على نفسك لأنك أصبحت بدائرة الضجيج، ضجيج الحياة والآخر والمصالح والأنانية والقسوة، فهذا النداء الخافت يهمس لمن تبقى لديهم ضمير حي وانسانية رقيقة ، ولكن حين تجف الانسانية ويُقمع الضمير يصمت ذلك النداء خلف كل تلك الأصوات.
نحن نعتقد ومن حولنا يقولون لنا بأن المنتصر هو القوي والقاسي وصاحب الخبرة بالمصلحة وبكل المنافع المادية؛ ولكننا لا نتأمل نهاية هؤلاء، لا نتأمل المعنى الحقيقي للنصر، وأن هناك إنتصارات خسيسة وهناك هزائم مُشرفة، بأن هناك ئراء دنيء وهناك فقر رفيع.
تتراكم ممتلكاتنا المادية وتتعاظم طموحاتنا الحسية ، ونتجاهل بل وننسى بأن هناك ما هو أبعد من المادة وهناك ما هو أعمق من الحواس الظاهرة، بل أن للروح مئات الحواس ، وأن المادة محدودة بحدود الأرض التي نحياعليها وأن هناك عوالم أخرى تتجاوز المادية وتتجاوز كل المقاييس العلمية؛ وهذا النداء الخافت يأتي من تلك العوالم الخفية؛ نسمعه ونتجاوزه ونتجاهله إلى أن تأتي الحقائق الحياتية والمادية كي تصفعنا فنتذكره ونقول بأننا شعرنا بأنه لم يكن القرار السليم، لم يكن الشعور السليم.
في أعماق كل منا بصيرة نافذة ترى أبعد مما هو مادي، وتشعر أعمق مما هو حسي ، ولكننا سلمنا مواهبنا وحواسنا ومداركنا لعالم مادي يفرض قوانينه علينا ونقبل بقراره وكأن له الحكمة العليا وننسى بأن الحكمة العليا والقصوى والأرفع هي حكمة السماء.
القانون...دورة حياة
ما الجدوى من قانون لا يتماشى مع تغييرات إجتماعية عميقة؟ ما الجدوى من قانون أثبت فشله مراراً وتكرراً في منع جرائم معينة أو تصرفات مُسيئة؟
ما الجدوى من قانون أصابه الهرم ولكن القضاء يصر على جعله كسوة لتصرفات فتية وجامحة؟
القانون أيضاً له دورة حياة؛ يبدأ شاباً فتياً ينسجم مع جميع الفئات العمرية ويمكن إلبساه لجرائم أو جنح أو سلوكيات فترة ما؛ ولكنه لايلبث أن يتقدم في العمر، ويبدأ سيره بالبطء وربما بالتراجع حيث تتسارع وتيرة الأحداث في المجتمع؛ ثم قد يدخل في شيخوخة فعلية وتصبح هذه الشيخوخة حالة مستعصية لأنه ورغم تطبيقه لا يلبي إحتياجات المجتمع الأمنية والشخصية بل والمادية أيضاً.
وربما يمكن التفكير بأن القانون الذي مر على تشريعه سنوات طويلة يمتلك مقومات الثبات والإلمام بتفاصيل كثيرة، تماماً مثلما نتحدث عن شخص كبير بالسن وحكيم، ولكن حكمة القانون الأولى هي مجارة الزمن والأحداث. نحن بحاجة إلى جرأة كبيرة في إستصدار قوانين فتية شابة تنسجم وتجاري التطورات الإجتماعية والانسانية والمادية .
وربما المجال الأوسع الذي يتطلب إصدار مثل هذه القوانين وبجرأة عالية الكفاءة هو مجال العالم اللإلكتروني التكنولوجي؛ فنحن لا نزال نحاول إسقاط القوانين التقليدية الموضوعية على عالم بصري متحرك متسارع من دقيقة إلى أخرى؛ لابد أن يكون هناك قناعة كاملة لدى مشرعي القوانين بأن هذا العالم لم يعد خيالياً وأنه أصبح يمس الحياة الواقعية لكل فرد منا، ويترك آثار عميقة وربما مُدمرة على شرائح واسعة من المجتمع.
كون القانون دورة حياة، هو أن ينبض بهذه الحياة ، أن يتواصل مع أفراد المجتمع، أن تكون هناك لجنة تعمل على مدار الساعة لمراقبة ورصد إحتياجات وتغيرات وتناقضات المجتمع.
من ناحية أخرى، في عالمنا المعاصر، لم يعد القانون مجال ينحصر برجال القانون ومحدود الزوايا بغرف المشرعين والقضاة والمحامين؛ لقد أصبح القانون أكثر إمتداداً وتوسعاً بل وتضخماً، لأنه يمس كل النواحي البشرية سواء على الصعيد الفردي أو الجماعي. خصوصاً في ظل التطور التكنولوجي المتسارع، وهذا التطور ترك ويترك آثارًا هامة وعميقة على البنية الإجتماعية والسلوكية للجماعة وللفرد. رجل القانون في عالمنا المعاصر لا يجب أن تنحصر حياته في كتبه وقضاياه بل لابد أن يخرج للمجتمع أن يرصد هذه التغيرات حيث أننا نعاني من قصور كبير في الدراسات الإجتماعية حول التغيرات السلوكية والإجتماعية المتسارعة، لذا لابد لرجل القانون أن يضلع بهذه المهمة رغم أنها ليست من إختصاصه ولكنها تمس كل نص قانوني يقوم بكتابته.
رجل القانون الذي يعترف بأن للقانون دورة حياة وأن له مدة إنتهاء صلاحية، هو رجل يحترم طموحات ومعاناة أفراده ولا يركن للهدوء والدعة لأنه يعلم يأن حيويته الفكرية والقانونية أساس هام في تطور المجتمع.
أهم مثال لدولة أدركت بأن للقانون دورة حياة هي سويسرا، التي تشرع القوانين بكل يوم ثم تعرضها على الإستفتاء العام ، رجل القانون هناك على وتيرة متوازية مع التغيرات التي تمر المجتمع.
جمود القانون وهرمه هما إضعاف لتطور المجتمع، بل وقد يكون مدمراً لحقوق افراده حين يعجز عن تلبية إحتياجاتهم المعاصرة. لابد للقانون أن ينتقل من أوراق على المكاتب إلى عنصر فاعل وحيوي متحرك بل ومتنبأ للتغيرات التي تحدث في المجتمع. فالعدالة ليست النص الجامد للقانون بل الروح النابضة بإستشعار معاناة من يلجأ إليها.