تعرضت لنوبة عصبية، جعلتها تنتفض في فراشها كالطير المذبوح، تحاول الصراخ، تنادي صديقتها التي قدمت كالمذعورة للتهدئة من روعها، حضنتها وأمسكت بوشاح أدارته على رأسها الذي يكاد أن ينفجر، قدمت لها كوبا من الماء وأبعدت عنها هاتفها النقال قائلة : أتركي الآن كل شيء وحاولي أن تهدئي. فكري بنفسك قليلا، إسترخي ليذهب الألم...
أغمضت المريضة عينيها وتظاهرت بالنوم، غادرت صديقتها الغرفة بعد أن تمنت لها الشفاء. ما إن أغلق الباب حتى أمسكت بهاتفها و نقرت زر التشات وجدت حبيبها "أون لاين " راسلته : رجاء خذني إلى أقرب دكتور. إني أعاني، إني أمر بلحظات صعبة، أحتاج دواء.. رجاء...
رد على رسالتها : الآن ؟ في مثل هذه البلاد وفي ظل هذا الوضع غير الآمن لا أظن أنه يوجد عيادة مفتوحة.. آسف.. حاولي النوم وانتظري حتى الصباح.
كانت ترتعش، تحس بضربات المناجل والمطارق تنهال على رأسها الصغير، لم يستطع جسدها القوي تحمل لا مبالته، كان عقلها خارج نطاق السيطرة، ردت على رسالته بهذه الكلمات : فراقك يقتلني... و إني في أمس حاجتي إليك، لا تتركني، إني أخشى أن يباغتني الموت بعيدا عن حضنك وعن تراب وطني.. أنت المسؤول عما يحدث لي...
أغمضت عينيها الدامعتين لتستقبل رده، ذلك الرد الذي خُطت حروفه من القطب الشمالي : آسف... ليس لك سوى التعود على الفراق... ثم لست أنا المسوؤل عما يحصل لك.. توقفي عن إتهامي...
علت الدهشة وجهها الأصفر الذي غاب لونه تلك الأيام فحروفه الباردة صفعتها كعاصفة رملية، كرياح الشمال حين تهز رمال الصحراء فتصيب الأعين بالضرر. قضت دقائق في مشاهدة تلك الرسالة التي وصلت على إختلاف توقعاتها. ماذا ستقول؟ و بأي كلم ستردّ؟
وضعت يدها المتبللة عرقا على صدرها، مرددة حسبي الله و نعم الوكيل، مناجية رب العالمين في تلك الليلة كما يناجي الحسيني ربه يوم كربلاء، حين يمشي ذلك العلوي بين الوفود سائلا لماذا يُظلم أطيب خلق العالمين؟
إنهرت دموعها، وأسلمت أمرها لربها علّ ذكر الخالق يخفف من آلام البشر ويوقف أوجاع الطبيعة. تبادر لذهنها قول زميلها المسيحي من كان يردد دائما قول بولس : الله معنا فمن علينا؟ مع أجراس كنيسة المجمع السكني الذي تقطنه، تراءت لها صورة مريم المجدلية وهي تبكي فراق المسيح... علت الابتسامة وجه تلك العليلة، فالمجدلية وزينب وقديسة قرطاج وديبورا والسيدة المنوبية والكاهنة الامازيغية كن شاهدات على ظلم الظالمين....
توقفت ضربات المطارق من على رأسها، أغمضت عينيها لرائحة قدمت من اللامكان، من أرض أخرى، ربما من عبق بخور تلك الكنائس التي تحيط بيتها أو ربما من إحدى زوايا المدينة القديمة بأرض الوطن، لفت وجهها تلك الرائحة ونامت بعد أن تركت عبارة : حسبي الله و نعم الوكيل.
لم تكن رسالتها موجهة إليه، بل كانت موجهة للموقف وللامبالاته غير المتوقعة. فهو الحبيب القريب، من يُحب غسل شعرها المجعد ويحاول إستعمال مجفف الشعر ليجفف خصلات شعرها المبلل... إنه صاحب الذوق الرفيع من يختار بدقة الألوان التي تناسب لون بشرتها ولون عينيها و وجهها الدائري.
هو الفنان الذي يرافقها ويساعدها في دروس الغيثارة لكنه أضحى قاتلا متلحفا في رداء صديق.
إستيقضت من نومها تترنح تحاول فتح عينيها بصعوبة جراء شلالات الدموع التي تساقطت يوم أمس. رتبت نفسها، ارتدت قميصها الزهري وتوجهت نحو السوبر ماركت لتقني ما ينقص بيتها من أغراض وخاصة الشاي والبسكويت، فاليوم هو موعدها مع أستاذة الموسيقى، لتستمر في تلقي دروس الغيثارة ليس من أجله طبعا بل من أجل تلك الروح الجريحة التي ستعزف للفرح القادم.
ستعزف بأصابعها المخضبة بقبلاته على أوتار تلك الغيثارة القاسية، ستحمل تلك الآلة كما كانت تحمله بين أحضانها عند كل مساء ليجد السلام و الحب، على أمل أن تمحو الموسيقى آثار الهمجية من على روحها، على أمل أن تغادر تلك العواصف الرملية عينيها، ليهطل المطر وليخضر قلبها من جديد.
طال تجوالها بالسوبر ماركت، على غير عادتها، لقد كانت تبحث عن إجابة لسؤاله أو بالأحرى لطلبه : فتشي عن مسؤول آخر؟
توجهت نحو الملابس النسائية و قالت لنفسها : بعيدا عن مسألة الجراح وبعيدا عن سيناريوات رجال الشرق من يكتبون تاريخهم على أنغام الأنانية والوقاحة وتلك الذكورة المقيتة... من المسؤول فعليا عن آلام النساء؟ من المسؤل عن أوجاعنا؟