أريد في هذا المقال أن أكتب عن موضوع كان يوم الخميس الماضي من المواضيع التي طرحت من نافذة ام بي سي لبرنامج بانورما الإذاعي في فقرة سعوديات مبدعات بمبادرة سارة الشهري لإضاءة بعض جوانب منجزات ومعوقات وتحديات النساء السعوديات في حب الوطن. وإن كنت ساعود في مقال آخر للتوقف عند هذه المبادرة الشبابية وقائمة أخرى من مبادرات الشباب المثمرة والطموحة،
فإنني هنا سأقوم بإفراد هذا المقال لموضوع ذلك اللقاء الذي رمز له هشتاق: ارفعوا الوصاية عن النساء السعوديات.
أهلية النساء
كان الموضوع على وجه التحديد عن استحقاق أهلية المرأة وحقها في الحصول على موقع اجتماعي يحترم إنسانيتها، فيطالبها بالواجبات ويخولها تحمل المسؤولية، ويمكِّنها من الحقوق الوطنية والأسرية في نفسها وأسرتها ومجتمعها ويرفع عنها قيود عدم تمكينها من تولي أمر نفسها بنفسها في مجال نشاطها الإنساني والمدني.
والحقيقة أن هذا الشجن شجن مركب وله عدة طبقات.
كما أن تناوله لا يقل تعقيداً ويتطلب الطرح على عدة مستويات. منها على سبيل المثال، بحث موقع المرأة فيما يسمى «سيسيولوجيا» بالحيز الخاص والحيز العام، ويقصد به موقعها في الفضاء البيتي وفي الفضاء الخارجي. إلى جانب موقعها في الأطروحة الرسمية مقابل ذلك الموقع في الأدبيات الأكاديمية من جانب وفي الواقع اليومي العملي من جانب آخر. على ما بين تلك المواقع من تضامن في إنزال المرأة في مكانة لا تمكنها من حقوقها كإنسانة ومواطنة كاملة الأهلية، أو ما بينها من تضارب قد لا يكون حله إلا فيما ندر لصالح النساء.
فالفضاء العام ما يزال حيزاً لا يرحب بوجود المرأة فيه إلا على مضض. والدليل على ذلك أن المرأة أني اكتسبت من المواقع في وظائف الدولة أو القطاع الخاص لا يجري تخويلها مسؤوليات تلك المواقع بشكل مستقل يعترف بعلمها وأهليتها إلا فيما ندر جداً، أما الواقع الموضوعي والمعتاد بمجتمعنا فهو عدم أهلية المرأة لأن تُعطى لها صلاحيات العمل نفسها التي تعطى لمن يكون في مثل موقعها ممن يعملون في القطاع الحكومي والأهلي على حد سواء.
بيئة طاردة
بل إن الأمر بلغ حداً من الاستخفاف بأهلية النساء أن يعطى زميلها الذي يشغل نفس موقعها وتتولى القيام بنفس مهامه أن يتولى هو أمرها من خلال إعطائه صلاحية اتخاذ القرار في الأعمال التي تباشرها المرأة بشكل مباشر وتعرف تفاصيلها ومشكلاتها بحكم أنها تجري في بيئة نسوية صرفة لا يعرف عنها شيئاً في موقعه الرجالي المنفصل عادة عن الحيز الذي تعمل به المرأة. (مع ملاحظة أن المصطلح «السيسيولوجي» في القول بالحيز العام أو الفضاء الخارجي لا ينطبق على «واقع الحال الذي تعمل ضمنه المرأة السعودية»، حيث أنه أقرب -إن صح التوصيف- إلى الحيز البيتي الخاص أو الحيز النسوي المنفصل الملحق بالعالم الخارجي من الفضاء العام، مع إحكام القبضة عليه بمجموعة عليا من الضوابط والإجراءات التي تحافظ على تبعية إلحاقية لحيز النساء بالحيز العام الذي هو في الغالب حيز رجالي محض، أو في أحسن الأحوال منحه ما دون الحد الأدنى من المساحة والاستقلال).
هذا ناهيك عن أن المرأة لا تحظى بـ"بيئة صديقة"، وأبسط مثال على ذلك أنها لا تستطيع أن تمشي في شارع من شوارع حيها وإن لم تكن تريد أكثر من «أن تخرج من بيت أبيها قاصدة بيت الجيران» كما كان مألوفاً أيام زمان. بل إن خروجها للمشي وحدها حتى وإن كانت تقصد صيدلية أو مستوصفاً أو ابتياع خبز يجعلها عرضة للتعريض ويرشحها للشك والاتهام.
كأنَّ المرأة لا تخرج إلا لتصيد مريضاً أخلاقياً يتعقبها ويرى فيها فريسة وليست إلا، فوق ذلك الغزل الرخيص ومحاولات التحرش. فبيئة الفضاء الخارجي مع تغير البنية التحتية للمجتمع ضيقت حتى المساحة المعهودة التي كانت إلى ماضٍ قريب متاحة للمرأة، كما خنقت مساحات الحركة التي لم يكن مستنكراً أن تجمع بين النساء والرجال، ومنها الأسواق ودور العبادة كالحرمين الشريفين ومشاعر الحج ومصليات الأعياد وفلوات النزهة الأسرية ومطارحها العامة كالمطاعم وملاعب الأطفال، مما كادت تصير معه حالة مألوفة تلك العزلة التي تضرب على النساء في تلك المواقع، ومما صار معه موقف طبيعي مسلٍ أن يستجوب رجل وزوجته إن سارا معاً في مكان من تلك الأماكن العامة.
أما فيما لو توقفنا قليلاً عند ما يجري من حجب حق الأهلية والرشد عن المرأة بشكل يومي ويكرّس الوصاية عليها من أكبر رجل في العائلة إلى أصغر ابن من أبنائها الذكور أو إخوانها وإن كان «ورع صغير»، لم يتجاوز عمره خمس عشرة عاماً فحدث ولا حرج. وفي هذه المواقف يجري تجريد المرأة من الأهلية والرشد وكأن المرأة ليست مثلها مثل شقيقها الرجل الذي ينظر إليه بشروط الأهلية والتكليف كمواطن وإنسان مسلم راشد عاقل حر.
كائن منكسر
فالمرأة وإن أصبحت جدة أو حصلت على أعلى الشهادات لا يُنظر إليها ولا تُعامل لا اجتماعياً ولا رسمياً بشروط المواطنة المعاصرة، كما لا يُنظر إليها ولا تُعامل بشروط الإسلام في الأهلية والتكليف والمتمثلة في الرشاد والعقل والحرية، بل إن المرأة تُعامل - مع الأسف وبتواطؤ أحياناً أو قبول منكسر من المرأة نفسها - وكأنها مخلوق قاصر وإن بلغت عمر البلوغ أو بلغت مبلغاً متقدماً من العمر والرشاد. فلا يُسمح لها بإدارة شؤونها ولا تقرير مصيرها ولا الوصاية على أبنائها القصر وإن غاب الأب. والمفارقة أنه بينما باسم الحماية والوصاية تحجب عن المرأة الثقة في تحمل مسؤولية السلوك السوي فلا تُمَكَّن من حقوقها المدنية والشرعية على قدم المساواة فإن من ينكرون ذلك عليها يعلمون ويعملون على أن تطبق في حقها كل العقوبات التي فرضها الشرع على من يخرج على ناموس الحياة، متناسين بأن الشرع لم يكن ليقر المساواة في العقاب دون المساواة في التكليف بين المرأة والرجل باعتبار كليهما راشداً عاقلاً وصياً على أفعاله وأقواله ومسؤولاً عنها أمام الله وأمام الضمير والمجتمع.
إن المجتمع يقول: إنه يضع الوصاية على المرأة ويشدّ في أزر الدولة للعمل بهذه الوصاية من منطلق حماية المرأة. فبالله هل من الحماية للمرأة حجب حقوقها المدنية والشرعية عنها ومعاملتها كفاقد للعقل والرشاد والحرية؟!
أعرف بأمرها
إن علينا لنعرف خطورة مثل هذا الوضع أن نسأل النساء أنفسهن ونشركهن من منطلقات فقهية شرعية، ومن منطلقات نظرية علمية ومعرفية، ومن منطلق المعايشة والمعاناة اليومية. علينا ألاَّ نكتفي برأي النخب باختلاف هواها السياسي وتيارها الفكري، بل ينبغي سؤال الفئات التي لم تكن أسرها لتأكل لقمة حلال نظيفة من دون عملهن ومشاركتهن في حمل مسؤوليات بيوت بكاملها في أعناقهن. فماذا تقول المرأة التي تُزوج وهي بعد طفلة، والمرأة التي تُطلَّق دون علمها وإرادتها ولا يقف المأذون الشرعي ولا القاضي على حقيقة موقفها ولا هويتها عند عقد العهد الغليظ. لا بد من الإصغاء لتلك المرأة التي لا تستطيع استخراج بطاقة هوية ولا جواز سفر لا لها ولا لأطفالها وإن كان الوالد غائباً ولا يعولهم وإن كانت تحمل صك وصاية عليهم مصداقاً من المحكمة.
المرأة التي تحتاج لتوقيع ولي أمرها لتحصل على عمل أو لتلتحق ببعثة علمية أو لتجرى لها عملية جراحية مشروعة. المرأة التي تحتاج إلى الورقة الصفراء لتنتقل من بلد إلى بلد وإن بإثباتات بأنها لن تذهب إلا في رحلة علمية أو علاجية -لا سمح الله. لا بد من التوقف للإصغاء والتقاط إيقاع حياة المرأة التي «تتلطش» على التكاسي أو تحمل بضاعة على رأسها مسافات طويلة عرضة «للسخافات»، لتعول أبناء لم يجدوا عملاً أو زوجاً قصمه العوز أو المرض أو عاث فيه اليأس أو ضربته المخدرات. إلى متى يسري عدم تمكين تلك العينات المكافحة من النساء يأخذ رأيهن في تشخيص الواقع الاجتماعي للنساء؟!
وباستعارة مقولة أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، أما آن لهؤلاء الفوارس أن يترجلن عن صهوة الوصاية والإقصاء فيمكن النساء من المشاركة في تقرير مصيرهن كنساء ومواطنات مسلمات راشدات عاقلات، كما يشاركن كل نهار جديد جيلاً بعد جيل بصبر أخاذ في صنع الحياة. هذا ولله الأمر من قبل ومن بعد.