لم تبتعد تلك الأم كثيرا لكني لا أعرف أين غابت؟!.. أين وضعت رحالها.؟! كيف أكملت طريقا لم تكن صاحبة خيار فيه!!..
لازالت تلك اللحظات المرتبكة في الحرب على قطاع غزة تتجلى رغم هرولة الحياة وصمتها المخيف أحيانا، الأوقات الصعبة يعتقد الجميع أنها غابت، لكن تلك الأم كانت تلك اللحظات المرتبكة هي ما تبقى من حياتها.. القصف كان شديدا والقذائف الإسرائيلية لم تصمت في جنوب قطاع غزة، هرولت حين داهم الخطر البيوت المجاورة والمنطقة بأكملها.. كأنه يوم الحشر هي وحيدة ولديها العديد من الأطفال صغارا.. بعضهم يركض وبعضهم يزحف وبعضهم زاغت عيناه من شدة الخوف، وجدت نفسها على مفترق حياة أو موت..
الدخان يملأ المكان والناس يتصايحون وكل يحاول الإفلات بروحه فالقذائف والشظايا كانت تتساقط كالجمر الملتهب فتبتلعها الأجساد الطرية وتذوب فيها لتلقى حتفها أو تنفض الألم فتفقد من تصيبه وعيه من شدة الألم والاحتراق.. بالكاد حملت طفلين وأنفاسها تلهث وهي تتعثر بثوبها الطويل الذي لم تنزعه طيلة الحرب ولم ترفع عنها غطاء الرأس خشية من هذا الوقت. هذا أقصى ما أمكنها أن تجهزه لهذه اللحظات الحرجة.. أحدهم أصيب في قدميه وأقعدته الشظايا ليولول صارخا من شدة الألم، كانت تحمل اثنان وتصرخ بالباقي أن يركضوا بجانبها.. يده تمتد لها لكنها بهتت من وجع المشهد !! كم يدا تحمل كم قلبا لتأخذ أطفالها الخمسة. الحرب بشعة لم ترحم الأم ولم تدعها تفكر بقلبها أو بعقلها بل وجدت نفسها تركض والصغيران الآخران يمسكان بطرف ثوبها وكلما تعثرت وقع الخمسة على الأرض لتنتفض وتنهض ثم تعود وتركض لا تعرف أين تهرب حيثما لمحت بشرا ركضت نحوهم لتبتعد عن الكتل الملتهبة التي تتساقط كالمطر على البيوت الآمنة.. ظلت تجري دون وعي صارخة ..ساعدونا ارحمونا ..ارحموني .. هي صرخة استمرت حتى هرع إليها البعض بعد أن ابتعدت عن الحي بأكمله.. لم تعد ترى أطفالها لم تعرفهم من وجوههم المغبرة ومن ثوبها الممزق لم تعرف نفسها.. مرت الساعات كأنها سنوات وقلبها ممتلئ بطفلها المصاب الذي ظل خلفها..!!
لحظات مرتبكة جعلت الدهشة تبتلع ملامحها حتى تم انقاذهم.. كان الجميع يركض نحو الطريق العام هنالك هرع لهم الإسعاف ولوحت مشيرة لطلفها المصاب والذي ظل صارخا لا يقو على الزحف..
أم فلسطينية في لحظات الحياة والموت ليست هي من يمنحها لكنها الآن تقطن في مكان ما وقد أنقذت أطفالها الأربعة فيما صمتت الحياة في عينيها وقلبها كلما لاحت دماؤه وصرخاته أمام ناظريها.. لازلت أبحث عن وجهها لكنها أخفت قلبها في عيد الأم أراها وقد عادت لترتدي ثوبها المرقع بالحنين لصغيرها ..
عادت أدراجها وظلت تحتضن تلك الحجارة الصغيرة التي تخضبت بدمه، هي احتضنته في قلبها لكنها الحرب اللعينة تنتهك حب الأمهات وبراءة قلوبهن، تقسو الحرب كثيرا على الأمهات وتجردهن من مشاعرهن وتلوكها وكأنها قطعة حجارة، اللعنة على الحرب التي تأكل الأطفال وتسرقهم من أمهاتهم، اللعنة على الحرب التي تسرق الأمهات وتترك أطفالهن وحدهم..
هي سرقت الحرب منها فلذة كبدها، ولكنها منحت قبلة أخيرة على قلب الصغير لكنها توقفت في اللحظات التي لم تعطها الحرب خيارا ولم ترحم إنسانيتها..
عيد الأمهات في فلسطين مختلف فقد رحلت العشرات من القلوب الحنونة وعذبت الحرب قلوب أمهات أخريات.. أراها أمامي الآن ألمحها وهي مقعدة على كرسي متحرك تحاول جاهدة أن تقنع صغيرها بالحديث معها.. هو لم يتجاوز الأربع سنوات وقد بترت إحدى ساقيه أيضا، فاجأتهم الحرب وأخذت من كل فرد في الأسرة قدمين أو قدم واحدة حين انفجرت القذائف على مقربة منهم.. هو يفاجئها كل صباح بذات السكين الموجع..
- ابتعدي عني انت لست أمي !! أمي كان لها ساقين وتجري وتحملني أنت بلا قدمين..! أنت لست أمي.!
هذه الحرب اللعينة توجع الصغار كثيرا وتجعلهم يطلقون رصاصا على أمهاتهم فيمتن كل يوم مئة مرة حين يشعرن أنهن لا يتمكن من احتضان صغارهن بهدوء وسكينة.. الحرب تشرب الحب ولا تترك منه شيئا للأمهات والصغار.. هذا العيد يمر مطأطئا رأسه كي لا يجرح قلب أم لم تلد بعد أطفالها، كي لا يدنس أحلامها الجميلة..
كل عام وأمهاتنا نابضات فينا، كل عام وأمهات فلسطين رونقا وبلسما لأنفسهن ولأبناءهن ..كل الحب تعود الأمهات وتنتزعه من الحرب لتسقي به القلوب الجافة وتعيد للحياة رونقها.