إن مرد صبر العراقي وصلابته في مواجهة ما ظهر، وما خفي من ظروف سيئة، فضلا عن تداعياتها القاسية، يعود بشكل رئيس إلى آماله العريضة بقدرة معطيات العملية السياسية على تحقيق تطلعاته في إقرار العدالة التي تعد الأساس في مهمة بناء العراق الجديد. إلا أن معطيات المرحلة الانتقالية فرضت عليه الاستمرار في دوامة الانتظار الذي يبدو أنه أصبح صنوا لا يفترق عنه. وعلى الرغم من ممارسته لنشاطاته اليومية وهو لما يزل ينتظر.. وينتظر.. وينتظر، فإن المشكلة الكبيرة تكمن في حال شعوره يوماً لا قدر الله بعدم جدوى انتظاره في إمكانية تحقيق العدالة، وأن ليس ثمة أمل بتحقيقها، حينئذٍ ينهار كل شيء، وتذهب تضحيات شعبنا سدى. على أن أكبر الخسائر في هذا التطور المفترض هو صبر المواطن وقدرته على التحمل الذي يفضي من دون شك إلى إحداث اختلال بنيوي في عملية البناء الاجتماعي والنفسي. أنا شخصياً، أشعر بتفاؤل كبير من تطمينات كبار المسؤولين، وفي مقدمتهم معالي رئيس الوزراء الذي دخل المنافسة الانتخابية بقائمته التي تحمل أسم دولة القانون، فضلا عن احاديثهم المتكررة حول ضرورة تحقيق العدالة والحفاظ على استقلالية القضاء وترسيخ دولة القانون. وحين حاولت عرض وجهة نظري المتفائلة على مجموعة من المحامين المثقفين الذين جمعتني معهم جلسة خاصة، قابلني أغلبهم بالسخرية من موقفي، وأن هذا التفاؤل غير معقول في ظل ما يحدث حالياً في سلك القضاء وقرارات المحاكم وإجراءاتها. لا أريد نقل الحديث بكامله، ولكني سوف اركز على نقطتين وجدتهما على جانب كبير من الأهمية، أولهما تتمحور حول ما عرضه بعض المحامين عن وجود توجيهات من قبل أعلى السلطات برد الدعاوى التي يقيمها الأشخاص على الدوائر الحكومية، فضلا عن وجوب أن تكون القرارات في صالح الدوائر الحكومية في كل الأحوال، وأن المحاكم وبخاصة على مستوى البداءة والاستئناف تلتزم بهذه التوجيهات وتصدر قراراتها لصالح الدوائر الحكومية. ومع خطورة هذه الرؤية، فأنا شخصياً غير مقتنع بوجود مثل هذه التوجيهات، ولا يمكن أن أصدقها مثل كثير غيري. غير أن ما سمعته عن حوادث وقضايا ودعاوى يجعلني كعراقي يعتز ببلده، ويأمل خيرا في توجهات قيادته السياسية المنتخبة مطالبة مجلس القضاء الأعلى بتوضيح الحقيقة ليس بالكلام وانما بالأرقام عن عدد الدعاوي ونتائجها، إضافة إلى مطالبة وزارة التخطيط بتأكيد الأرقام التي ستعلن؛ بغية دحض الافتراءات التي تنسجها كثير من الجهات من أجل تشويه العملية السياسية، وإجهاض خططها وبرامجها، وبالتالي إضرار الشعب. وتتعلق النقطة الثانية بالقرار ( 117) لسنة 2000 م الذي صدر في عهد النظام السابق للاستيلاء على الأراضي وتوزيعها بشكل قطع سكنية على العسكريين، مقابل تعويضات زهيدة رفضها أغلب المالكين. واللافت للانتباه إن هذا القرار الذي تم إلغاءه بموجب الأمر التشريعي ( 12 ) لسنة 2004 م، لم يتم التخلص من أضراره على الرغم من وجود ما يسمى بالعدالة الانتقالية. إذ أقام الناس آلاف الدعاوى، بغية الحصول على قرار قضائي يمكنهم من استرداد أراضيهم، أو تعويضهم بالقيمة العادلة، إلا أن جميع الدعاوى انتهت بنتيجة الرفض لمسألة اعادة الاراضي، أما التعويضات فكانت هي الأخرى غير مجزية؛ لكون قانون دعاوي الملكية اشترط التعويض مقارنة بسعر الذهب، ومعروف أن الفروقات بين سعر الذهب عام 2000 م، وسعره حالياً طفيفة، في حين ارتفعت قيمة الاراضي عشرات الاضعاف. أنا لا افهم حقاً كيف يتم تعويض من صادروا أرضه بقيمة الذهب، بينما المنطق يفرض أن يتم تعويضه بقيمة الارض بسعر اليوم. والأغرب من ذلك هو ما يواجه الاف المالكين للأراضي الزراعية ( حق التصرف )، فكما هو معروف قانوناً أن حق التصرف هو نوع من أنواع الملكية المسجلة بدوائر التسجيل العقاري، وأن حصة صاحب حق التصرف تتراوح بين النصف والثلث من الأرض ذاتها بحسب نوع حق التصرف، فهل يجوز أن تصادر من شخص آلاف الأمتار من الأراضي، ثم تصدر محكمة ما قرارها برفض إعادة الأرض ورفض التعويض المجزي معاً؟. أنا ما زلت متمسكا بنزاهة القضاء العراقي وريادته، ما يجعلني غير مصدق بالمرة أن قاضياً في العراق يصدر قراراً من هذا النوع. إن المحافظة على استمرار العملية السياسية يستوجب اولاً حماية حقوق الناس، حيث أن أي شخص ينتهك هذه الحقوق يفسر الناس فعله بمحاولة الأضرار باستقرار العراق والتأثير على جذوة صبر المواطن.