يتحدث الجميع عن العنف ضد المرأة؛ عن ضحايا العنف من الأطفال، عن عنف الرجل وعنف الحروب وعنف الفقر الصامت وعنف القهر الذي لا دوي لضرباته ولكنه يملأ الروح ضجيجاً.
ولكن من النادر أن يتم الحدث عن إلغاء الشعور وهو أقسى أنواع العنف غير المرئي وغير المُعترف به. و الأسوء أن هذا النوع من الإلغاء تتم ممارسته بشكل ممنهج وشبة يومي في العديد من الأسر وفي الكثير من العلاقات والضحية الأولى لهذا الإلغاء هم الأطفال ثم المرأة.
يحق للمرأة العربية أن تطالب زوجها بأي إحتياجات مادية وتتجرأ على ذلك في العلن وفي السر؛ ولكنها وبأحيان كثيرة تعجز عن مطالبته بألا يلغي شعورها؛ بأن يكون هناك مساحة شعور صادقة حميمة بينهما في حياة تعج بالتناقضات والمنغصات. وحين تطالبه بذلك ينظر إليها بإستغراب فلا وقت لديه لهذا الطلب وكذلك لا يفهمه فطالما أنه يلبي إحتياجاتها المادية من الصعب يتقبل تذمرها الشعوري وليس العاطفي، لأن التذمر الشعوري يختلف عن العاطفي؛ فالتذمر الشعوري عدم الإعتراف الكامل والمُعلن بكيان وتقدير الشخص الذي تحيا معه مهما كانت الظروف والخلافات؛ هو أن يتم تجاوز المساحة الخاصة والدفينة لذات الآخر؛ وهذه المساحة يتم تجاوزها بل وإختراقها وربما هدمها في أهم العلاقات الانسانية وهو الزواج. أما التذمر العاطفي فهو الشعور بأن حاجة المرأة العاطفية لا يتم تلبيتها أو إشباعها عبر كلمات لطيفة ودوة وردود أفعال حانية ؛ فتشعر المرأة بأنها تتعايش مع حياتها الزوجية ولكنها لا تحياها فعلاً وهو ما يزيد من الفجوة العاطفية بينها وبين الزوج.
المجتمع العربي من أشد المجتمعات تجاهلاً للناحية الشعورية، ويمس ذلك الأطفال أيضاً، فيمكن أن تتم تلبية جيمع إحتياجات الطفل المادية والدراسية ولكن تكون هناك فجوة عميقة في منطقة الشعور، منطقة تقدير مشاعره وآراءه وما يحب او لا يحب، بل وتجاهل هذه المشاعر لأنه صغير ولا يفهم أشياء كثيرة ونغفل بأن الطفل يفهم عبر الشعور قبل المنطق.
إلغاء الشعور يمس أيضاً المرأة غير المتزوجة فيتجاهل الأهل شعورها الفطري وحاجتها لأن تكون زوجة وأم ويخضع الزواج لمضاربات تشبة مضاربات البورصة في من يدفع أكثر أو أقل؛ بل قد تفقد المرأة كل فرص الزواج خصوصاً حين تكون خجولة وتعيش في أسرة محافظة جداً؛ وبذلك يتم سحق شعورها كمرأة وأنثى تحت ذريعة الأمن الإقتصادي.
وهناك إلغاء لشعور المرأة الأرملة أو المطلقة والتي تربي أولادها وحيدة دون أب؛ فإن فكرت بالزواج مرة أخرى يتم إنتقادها بل والتجريح بها؛ فهي لابد أن تضحي لأجل أولادها حتى آخر يوم من حياتها؛ لابد أن تعيش وحيدة كمرأة وأن تعيش مع أولادها كأم وحين يكبر أولادها ويستقلون بحياتهم تبقى مع وحدتها ولن يلومها أحد لأنها ألغت شعورها أو تم إلغاء ذلك الشعور لديها.
لقد حاولنا جاهدين إقتباس الكثير من الأفكار الغربية حول المرأة والطفل؛ منها من ساهم بشكل إيجابي ومنها من أثر بشكل شلبي؛ ولكننا لم نقتبس من الغرب إحترامه الشديد للشعور؛ وللألم وقبل كل شيء، الإعتراف بأن كل انسان بحاجة لمساحة من الشعور تخصه هو فقط ، مساحة يريد أن يكون بها سيد نفسه بكل الإحترام والشفافية والصدق مع الذات والآخر. ولا يكفي أن يكون لكل منا مساحة شعورية خاصة به بل لابد من الإعتراف بمساحة الآخر؛ وجزء من هذه المساحة ومن الإعتراف بها للآخر؛ هو الإدراك الناضج والراقي بأن الآخر يمكن أن يتألم من حالةٍ ما، يتألم بصمت دون أن يتكلم ولكن من حوله لابد أن يشعروا بهذا الألم ولابد أن يمدوا يد المساعدة العطوفة والرقيقة لمساعدته دون لوم أو تجريح ودون إحتقار لهذا الألم؛ فإن لم يستطيعوا المساعدة فيكفي عدم الإنتقاد والتجريح ويصبح الصمت هدية ثمينة.
ربما لابد لنا أن نستعيد تواضعنا تجاه المعاناة، خصوصاً حين تكون صامتة ؛ لابد لنا من تغيير مفاهيم قديمة ومكررة جلبت لنا القحط العاطفي والشعوري؛ لابد أن نربي بأولادنا ثقافة إحترام وتطوير وتقدير الشعور؛ وأن الشعور ليس منطقة عسكرية مغلقة في ذات كل منا. ربما لابد لنا من إعادة ترميم هذه المنطقة المُهملة أو تحريرها إن كانت سجينة وأن ندرك أن الشعور النابض الودود المتآلف مع الوجود والذي لا يخجل من الألم ولا يلوم الآخر لأجل معاناته هو أرقى حالات الانسانية. أن تشعر ، أن تحب ، أن تساعد وألا تخجل من ألمك، وألا تتجاهل ألم الآخر وألا تلغي الشعور من هذا الوجود، لأن الوجود كل الوجود يصبح عالم آخر حين يُمنح ما يستحق من الشعور. حتى الحيوانات تحتاج هذه المساحة من الشعور وإلا فما الذي يجعلنا نحبها ويجعلها تحبنا. والشعور أقوى من العاطفة لأن العاطفة قد تخص شخص محدد، بينما الشعور يخص كل من حولك بل كل ما بهذه الحياة.