الارشيف / عالم المرأة / أخبار المرأة

( التركيات) وأدب الرحلات في لغة الجذور

  • 1/2
  • 2/2

الدكتور محمد فتحي راشد الحريري - الإمارات العربية المتحدة- خاص بـ " وكالة أخبار المرأة "

هناك فرع من فروع الأدب العربي يسمى " أدب الرحلات " ،
أدب الرحلة ( أو الرحلات  بالجمع ):  وهو  فرع من الأدب  يصور فيه الكاتب ما جرى له من أحداث وما صادفه من أمور  أثناء سفرٍ أو رحلةٍ نفَّذها   لأحد البلدان حول العالم ، وتُعد كتب الرحلات من أهم المصادر الجغرافية والتاريخية والاجتماعية، لأن الكاتب يستقي المعلومات والحقائق من المشاهدات الحية، والتصوير المباشر لما يشاهده خلال رحلته ، مما يجعل قراءتها غنية، وممتعة ومسلية.
وهناك عدد كبير من الروايات والقصص يمكن أن يندرج بصورة ما تحت مسمى أدب الرحلات، فهذا المسمى الواسع كما نرى قادر على استيعاب ما كتبه ابن بطوطة مثلا وغيره من الرحّالين  ، رغم التباين الكبير فيما بين الرحَّالة؛ لأن الفكرة التي تجمعهم هي فكرة الرحلة نفسها، الرحلة الزمنية أو المكانية أو النفسية .
ويطالعنا فنّ الرحلة في طلب العلم ، أو الرحلة في طلب الحديث ، كرحلة البخاري ومسلم والشافعي وأبي داود وأبي عيسى الترمذي وابن ماجة والليث ابن سعد , وأحمد بن حنبل رحمهم الله وغيرهم .
ولقد عرف العرب أدب الرحلات منذ القدم، وكانت عنايتهم به عظيمة في سائر العصور. ولعل من أقدم نماذجه الذاتية، رحلة السيرافي بحرًا إلى المحيط الهندي في القرن الثالث الهجري، ورحلة سلام الترجمان إلى حصون جبال القوقاز عام 227 هـ ، بتكليف من الخليفة العباسي الواثق، للبحث عن سدّ يأجوج ومأجوج، وقد روى الجغرافي ابن خُرْدَاذْبّة (ت 272 هـ) أخبار هذه الرحلة. ثم تأتي رحلات كل من المسعودي مؤلف مروج الذهب ومعادن الجوهر ، والمقدسي صاحب أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم، والإدريسي الأندلسي في" نزهة المشتاق في اختراق الآفاق" ، إضافة إلى رحلة الرحالة المؤرخ عبد اللطيف البغدادي.
وتأتي رحلة البيروني (ت 440 هـ)،المسماة تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة، نموذجًا فذًّا مخالفًا لكل ما سلف، إذ تُعد وثيقة تاريخية هامة تجاوزت الدراسة الجغرافية والتاريخية إلى دراسة ثقافات مجتمعات الهند قديمًا، ممثلة في لغاتها وعقائدها، وعاداتها، مع عناية خاصة باللغة السنسكريتية ، وهي لغة الهند القديمة، إذ يتناولها البيروني بالتحليل، ويقارن بينها وبين اللغة العربية على نحو جديد. وقد أعانه على ذلك إتقانه اللغة السنسكريتية، وثقافته الواسعة، وميله إلى التحقيق والدقة، فضلاً عن إقامته الطويلة بالهند، حيث قاربت الأربعين عامًا. وكان البيروني قد دخلها برفقة السلطان محمد الغزنوي عند فتحه الهند، ثم انطلق سائحًا متأمِّلا.
 
 وأتمنى أنا العبد الفقير إلى الله تعالى ، أن أنقل للقارئ الكريم بعضاً من ملامح هذا الأدب من خلال تدويني لبعض الصور التي مررت فيها أو مرَّت بي  في زيارتي  لتركيا  مؤخراً ،في المرحلة الزمنية من  4\4\  2015 إلى 11\4  أي لمدة أسبوع واحد ، أمضيتها في أضَنَة ومِرسين وطرسوس وما حولها ، والمسافة بين أضنة ومرسين مئة كيلو متر ، ولقد كتبت عن الزيارة ثماني رسائل بعنوان (( تركيات1-8 )) حسب اقتراح بعض الأخوة ، ونسجا على منـوال  "المانيات " للدكتور الأنيس ، و" أمريكيات " للراوي ، وهي على النحو التالي :
تركيّـات ( 1 – 3 ) :
 استوقفني هنا في تركية بجميع المدن التي زرتها حتى الآن ، أن النظافة تفرض وجودها في الشوارع والمحال والمرافق والأسواق العامة والخاصة ، ولفت انتباهي الهدوء والبعد عن الصخب والتوتر ،
 الطريق من أضنة إلى مرسين وإلى طرسوس نظيف جدا وهو طريق منظم تحف به البساتين والمزارع والكروم والأنهار .
مزارع مرتبة تستغل الأرض استغلالا كاملا فلا يضيعون شبرا من الأرض كلها منظمة ومزروعة بأحدث الطرق ،وحيثما رحلت عيناك في قرى الكريق تطالعك المساجد بمآذنها الشامخة وطرازها العثماني المميز . بلاد الخير والنظام والحضارة والتقوى والعمل فعلا . لقد سرَّني أن المدينة كلها تنام في الساعة العاشرة كأقصى حدٍّ ليلا ؛ وإنْ رأيتَ بيتا ساهرا ليلاً  فاعلم أنه من المهاجرين . ولم ترَ عيني في المدن التي زرتها أي مظهر للخلاعة والعُري والتبذل والمشاكسة بين الشباب والفتيات أو المشي المتخلع ، شعبٌ جاد لا يضيع الفرص أبدا  .
 موجود في المنطقة جميعُ الخضار والفواكه التي تعوّدنا رؤيتها في دول حوض المتوسط ، مثل :
 الخبيزة وأخواتها والنَّفَل والدحنون وأخواته( شقائق النعمان) ، والعنب من أرقى الأصناف وبطرق زراعة متطورة جدا ، زيتون رمان برتقال وتفاح والمكسرات وأشجار اللوز والكرز والمشمش المكسوّة بياضا ناصعا كالثلج من أزهارها ...  سبحان الخالق وجلَّ في علاه  .
حتى الخرفيش والعكوب والنباتات الشوكية المألوفة بحوران موجودة هنا بكثرة ونوعيات أجمل وأروى  .
 البيت التركي منظم بشكل يمثل قمة الأناقة من الخارج ، فكل بناية لها فناء يحيط بها وهو عبارة عن حديقة صغيرة ملأى بالزهور والرياحين والأشجار العطرية فإذا ما دخلت فناء الدار من شقتك أو  من    الشارع عبقت في أنفِكَ الروائح العطرية الجميلة .
زرت اليوم سوق الفلاحات وفيه تباع المنتجات القروية  . الأسعار المعتدلة والنظافة المطلقة واحتشام السيدات الزائد يغري بالجلوس وتناول شيء ما .
جلست أنا وأم راشد وابني سعد وتناولنا فطائر السبانخ الطازجة التي خُبزت أمامنا ، وشربنا الشاي واشترينا البهارات التركية والمكسرات والتين المجفف والزبيب والعسل بأسعار معتدلة جدا ، تعادل ثلث او نصف أسعار الخليج .

ثم شربنا الشاي ، وقطفنا من الحديقة بمحاذاة الوادي الزهور والنّفل والخبيزة والهندباء وتمنينا لو كان معنا سكين لقطف بعض الشوكيات ، وعدنا أدراجنا إلى الفندق للوضوء والتجهز لصلاة الظهر .
تركيات 4) (
أراد الأخ د. عبد الحكيم الأنيس هذه التسمية ( تركيات ) وأنعِمْ بهــا !
تركيا بلد الحضارة وشاقني فيها العناية الخاصة بحدائقها فمهما صغرت الحديقة تجدها مزوّدة بألعاب لإجراء تمرينات رياضية .
ويمارس الرياضة السواد الأعظم من الناس أتراكا ووافدين وزائرين ،والحدائق مزودة بمظلات وجلسات واستراحات رائعة والنظافة سيدة الموقف والرائحة الطيبة العبقة حيثما سرت وجلست .
كانوا يقولون لنا فيما مضى أن التركي عصبي وما لمسناه انه اشد الناس هدوءَ أعصاب .
قال لي صديقي أنا هنا منذ 3 سنوات ولم أرَ شخصين يتشاجران أبدا !!!
تركيات ( 5)
صوت الأذان وخاصة أذان الفجر عذب جدا في تركية ؛ يغريك باليقظة المبكرة والاستمتاع بأمرين :
تسبيح الخالق ، والجو الربيعي المعتدل .
تعرفت بالأمس على رجال من القدم الشريف بدمشق (الميدان ) وتجاذبنا أطراف الحديث فأكَّد لي أحدهم وهو باحث أن القدم سُميت بذلك ليس نسبة لقدم النبي الأعظم بل نسبة لحاضرة يمانية اسمها القدم وفد منها أناس واستوطنوا حَيَّ القدم  .
وتعرفت أمس على جمعية خيرية كتبت اسمها بالعربية جمعية البركة الخيرية ورجالها حلبيون محترمون يقومون بأعمال خيرية وإصلاحية وأسرية بين السوريين المقيمين والعرب.
زرنا مدينة طرسوس ، وهي في للطريق بين مرسين وأضنة على تل عال . جبل شاهق حيث كهف الفتية واسمه بالتركي
Eshab l khf
وفي إحدى اللوحات السياحية رمزوا إليه بالسبعة النائمين .
بُني على الكهف مسجد جميل جدا بمئذنتين على الطراز العثماني إحداهما شاهقة جدا أكثر من 50 مترا . ولم تُعِنِّي همتي على الصعود فأصعَدْتُ ولدي سعد الدين وصوَّر لي فيلما عن الكهف ،وهو يتَّجهُ للجنوب وبذلك يتفق مع النص القرآني الشريف ويجعله أقرب للواقع.
الطريق إلى الكهف رغم صعوبته جميل ومحفوف بالأشجار والنباتات المتوسطية التي كدنا ننساها بعد الغياب عن الوطن .
قطفنا من جنبات الطريق الجعدة واللوف والخرفيش والفجيلة والسنينيرة واستمتعنا بأكلها ، كما تناولنا الكعك التركي اللذيذ جدا وهم مشهورون به وبالعسل الصافي غير المغشوش والحلاوة الطحينية . وفي تركيا المربى والحلاوة والعسل يُباع بسعر واحد ومعقول وكلها منتجات طيبة ولذيذة لغيري ممن لم يبتليهم الله تعالى بمرض السكري .
من مميزات مدن تركيا وسهولها كثرة الأنهار والوديان حيث تتدفق فيها المياه الصافية النقية العذبة كالزلال او عين الديك ، كما يقال ، و كم تمنّيْتُ ألا تصب هذه المياه في البحر بل تُعبَّأ  أو يتم استجرارها إلى أقطار الخليج أو بلاد الشام المجاورة ،التي تفتقر إلى مثلها ...
يستحيل ان ترى على سطح الماء قمامة او أكياساً بلاستيكية أو زجاجاتٍ فارغة او .......
تستطيع ان تشرب منها مباشرة وهي باردة جدا وهنيئة جدا .
مما يلفت النظر أيضا أنك لا ترى شرطيَّ مرور ولا أي مظهر للجندرما  أي البوليس ،وبرغم ذلك فالمرور يتم بحركة انسيابية مريحة جدا وآمنة ..
الأمن متوفر حتى للكلاب ؛ التي صنعوا لها في الحدائق العامة أكواخا مناسبة وكل كلب يحمل في أُذُنِه رقما تعريفيا خاصا به وبذلك تستطيع ان تقول ان الكلاب الشاردة غير موجودة إطلاقا ...
تركيات (7)

للغة التركية مجدها بين أبنائها وشعبها وحكومتها .
لذلك فالعربي مثلي الذي لا يعرف من اللغة العثمانية إلا المم ،مما ورثه عن جده وأبيه يجد صعوبة في التفاهم والتعامل والعثور على ضالته ونأمل منهم أن يعيدوا النظر في وضع اللغة العربية خاصة لأنها لغة الجوار ولغة عمقهم وجذورهم الإسلامية .
صلّينا صلاة الجمعة في أضنة وكانت الخطبة باللغة التركية ما عدا مقدمتها بالعربية . وتلا الشيخ آياتٍ بالعربية بشكل منفصل في نهاية الخطبة ، والأذان بالعربية طبعا .
كان الشيخ يرتدي الجبة البيضاء الرقيقة والعمامة العربية الشامية المعروفة عند علماء حلب ،،،
ووجدنا صعوبة إلى درجة الاستحالة في العثور على كتاب عربي أو مخطوط فالمكتبات العامة والخاصة إذا ما سألتهم عن أي كتاب عربي يقولون لك ( يوق او  يوك ) وتعني النفي والمكتبة تسمى (كتابسان )، وبعضها تتصدره صورة باني تركية ، أتاتورك وإذا ما طالعتك هذه الصورة فأنْصحُك بعدم الدخول فلن تجد بُغْيتك  أبدا .. قالوا لنا المخطوطات في أنقرة وفي اسطنبول . وهذا يعني حاجتنا إلى رحلة جديدة إليهما ، ووقتنا أوشك على النفاد لانتهاء العطلة الإنتصافية المختزلة ؛ ونسأل الله تعالى أن يحقق لنا المنى ، ونزور اسطنبول زيارة كتابية خاصة جديدة علما أني زرتها سابقا وحصلت منها على مخطوط باللغة العثمانية ذات الحرف العربي واشتريت كتاب الأمانات النبوية وآثار المصطفى المشرفة ..
 في اسطنبول عليك ان تتحمل وحَـرَ الحياة المادية السيئة وغلاء الأسعار بخلاف القسم الآسيوي الذي يتمتع بحياة أجمل وأقرب إلى استئناس النفس والقلب .

تركيات  (8)
الحلقة الأخيرة من سلسلة مذكرات زيارتنا لتركية
****    ****
طالعتني عبارة عربية لن أنساها أبدا 'ولعلها العبارة الوحيدة عربياً ، التي طالعتني بتركية ،وهي واضحة للخارج من زيارة أهل الكهف تقول : "إلى اللقاء ، رافقتكم السلامة"  .
*السيارات مرقمة بأسلوب علمي أنيق فعلى يسار اللوحة رقم من خانتين يدل على اسم المحافظة او اللواء وعدد المحافظات التركية أكثر من ثمانين  . ثم خمس خانات للسيارة وهي ثلاثة أحرف وعددان أو حرفان وثلاثة أعداد  .
*الاستثمار في تركيا متاح للجميع وتقدم الدولة تسهيلات وقروض وهناك قانون التشويق التجاري (هكذا يسمى) ويقضي بإعادة رسوم الجمرك للمنتج المصدر تشجيعا له .
*السيارات في تركية تشتغل أكثرها على الديزل ، ولكنني احترت بتحديد نوع الديزل فلا تلوث ولا روائح كريهة في الجو ، بل الجو مريح ذو رائحة عطرة جدا ... وكثير من سيارات الأجرة تعمل على الغاز .
*كراء البيوت (الأجرة ) بسعر معتدل جدا.
* وإذا زرت تركية استعدْ ذكرياتِ الأجداد في الكلمات التالية المستخدمة في الشام ومصر وأغلب دول الخليج (كلمات تركية متداولة غير غريبة  ) كمثال - تفيدك إنْ تذكَّرْتَهـا:
خاشوقة
صرماية
كزللك
يوغورت
أجازي// اجزاخانة
يوق// يوك
أوده
شيش
طيب ، تمام
جندرمه
إضافة للأرقام التي كان يتداولها الشياب وهم يلعبون الطاولة ( يك - جهار بنج...)
الشعب منشغل اليوم بالتحضير للانتخابات البرلمانية وتمر في المدن سيارات تبث دعايات انتخابية للحزب الذي تدعو له ، وهناك لقاءات ليلية وحفلات ومهرجانات بعد العشاء لمدة ساعة تقريبا وهذا الأمر لم يثر اهتمامنا أبدا،  فانا ممن يكره السياسة والأحزاب ، والأتراك يمتازون بعدم السهر لآخر الليل بل غالبهم يصلي العشاء وينامون ليتمكنوا من أداء صلاة الفجر المقدسة عندهم في وقتها ؛ لدرجة أنَّ أول عمل يقوم به الجيش  التركي في الثكنات والمعسكرات إنما هو صلاة الصبح كما حدثني كثيرون .
 الأتراك ودودون ويحبُّون العرب حبَّا جمّاً ، ولم أجد أمة على وجه الأرض تتعاطف مع نكبة السوريين وجميع منكوبي الأرض ،وتقدم لهم التسهيلات والحياة المحترمة مثل تركية.  وتبقى الغُصًّة في القلب فيما يتعلق بالماء التركي ، الثروة المهدورة فكم تمنيت ان يتم تصديرها واستجرارها إلى دولة الأمارات مثلا ، أو السعودية والكويت ،أو دول الشام المجاورة ،هي واللحوم  والمواد الغذائية التركية المشهورة عالميا والموثوق بها  دينيا ... والله الموفق .

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى